الجمعة

1446-10-27

|

2025-4-25

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(ولاة مصر زمن خلافة معاوية رضي الله عنه)
الحلقة: الحادية والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
1ـ ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه (41 ـ 43 هـ):
ولى معاوية عمرو بن العاص على مصر عام 41 هـ. وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم ، وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية الهامة، وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين ، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
إن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على قتلة عثمان لم يكن تضامناً من عمرو مع شخص معاوية ، بل كان نابعاً من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضي الله عنه الأخذ بالقَوَد من قتلة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقاً مع اجتهاد معاوية في القضية نفسها.
وقد كانت ولاية عمرو بن العاص على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة ، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة ، فقد واصل فتوحات الشمال الإفريقي ، ونظم أمر العطاء والإعمار والبناء والزراعة والري بمصر ،وقد بقي عمرو في ولاية مصر حتى وفاته عام43 هـ.
_وصيته عند موته:
يروي ابن شماسة المهري وصية عمرو بن العاص لحظة احتضاره فيقول: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشَّرك رسول الله ﷺ بكذا؟! أما بشرك رسول الله ﷺ بكذا؟! قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، إني كنت على أطباق ثلاث؛ لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله ﷺ مني ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، لو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ﷺ فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه ، قال: فقبضت يدي ، قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط ، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي ، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ﷺ ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ، ما أطقت ، لأني لم أكن أملأ عيني منه ، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
وجاء في رواية: ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء ، فلا أدري عليّ أم لي ، فإذا مت فلا تبكينَّ عليّ باكية ، ولا تتبعني مادحاً ولا ناراً ، وشُدُّوا عليّ إزاري فإني مخاصم ، وشُنُّوا عليَّ التراب شَنَّاً فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر ، ولا تجعلُنَّ في قبري خشبة ولا حجراً ، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جذور وتقطيعها ، أستأنس بكم.
وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجلّ ، وفي رواية: أنه بعد هذا حوَّل وجهه إلى الجدار ، وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا ، ونهيتنا فما انتهينا ، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغُلِّ من عنقه ، ورفع رأسه إلى السماء ، وقال: اللهم لا قويُّ فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت، فلم يزل يُردّدها حتى مات رضي الله عنه.
2 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (43 هـ):
كانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين ، واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها ، وبعد وصول خبر وفاة عمرو بن العاص إلى معاوية قام بتعيين أخيه عتبة على مصر ، وذلك في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين. أي: أن ولاية عبد الله بن عمرو على مصر لم تزد على شهرين؛ وهي الفترة التي استغرقها وصول خبر وفاة عمرو إلى معاوية ، واتخاذه لقرار تعيين الوالي الجديد.
وقد وصف الذهبي عبد الله بن عمرو بقوله: الإمام الحبر العابد ، صاحب رسول الله ﷺ وابن صاحبه ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن... وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها ، وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا ، ويقال: كان اسمه العاص ، فلما أسلم ، غيَّره النبي ﷺ بعبد الله.
وقد ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب؛ فكان من ملوك الصحابة.
3 ـ ولاية عتبة بن أبي سفيان (43 ـ 45 هـ):
ولد على عهد رسول الله ﷺ؛ ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطائف وصدقاتها ، ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص ، وكان فصيحاً خطيباً ، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه. خطب أهل مصر يوماً وهو والٍ عليها فقال: يا أهل مصر خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه ، وذم الباطل وأنتم تفعلونه ، كالحمار يحمل أسفاراً يثقُله حملها ، ولا ينفعه علمها ، وإني لا أُداوي داءكم إلاّ بالسيف ، ولا أُبلغ السيف ما كفاني السوط ، ولا أبلغ السوط ما صلحتم بالدّرة ، وأبطأ عن الأولى إن لم تسرعوا إلى الاخرة ، فالزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا. وهذا يوم ليس فيه عقاب ، ولا بعده عتاب.
وجاء في رواية: ... لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل ... ، فناداه المصريون من جنبات المسجد: سمعاً، سمعاً، فناداهم: عدلاً عدلاً.
وقد قام عتبة ببناء دار الإمارة بعد أن خرج مرابطاً في الإسكندرية ، وكان عتبة قد اتخذ لأولاده مؤدباً ، يعلِّمهم ويربيهم ، فقد عهد لعبد الصمد بن عبد الأعلى ليكون مؤدباً لولده ، ووجه مؤدب أولاده بتتبع أساليب التشويق وتحبيب دراسة كتاب الله إلى نفوسهم ، فقال له: علمهم كتاب الله ، ولا تكرههم عليه فيملوه ، ولا تتركهم منه فيهجروه. وجاء في رواية: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحك نفسك ، فإن أعينهم معقودة بعينيك؛ فالحسن عندهم ما استحسنت ، والقبح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه ، ثم روِّهم من الشعر أعفَّه ، ومن الحديث أشرفه ، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه ، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم ، وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء ، وجنبهم محادثة النساء ، وتهددهم بي ، وأدبهم دوني ، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ، ولا تتكل على عذري ، فإني قد اتكلت على كفايتك ، وزد في تأديبهم أزدك في بِرِّي إن شاء الله.
يتضح من هذه الوصية حرص الولاة الأمويين على تعليم أبنائهم القران الكريم والحديث والشعر وغيرها إضافة إلى التأكيد على الجانب التربوي وتزويدهم بالآداب والأخلاق الحسنة ، كما أنهم يمنحون المؤدبين صلاحيات واسعة، ويكرمونهم.
4 ـ ولايـة عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه (45 ـ 47 هـ):
أغفل الطبري ذكر ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر ، وتابعه ابن الجوزي ، وابن الأثير ، وابن كثير ، مع أن ولايته على مصر قد أثبتتها المصادر التاريخية المختصة بالديار المصرية ، وهي مقدمة على غيرها في هذا المقام ، كما أثبتها له ابن عبد البر ، وابن حجر ، وكان عالماً مقرئاً ، فصيحاً فقيهاً فرضياً ، شاعراً كبير الشأن ، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقران ، فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ ، فقرأ ، فبكى عمر. وكانت له صحبة ، وبايع رسول الله ﷺ على الهجرة وأقام معه وكان من أهل الصفة ، وكان من الرماة المذكورين ، مات سنة 58 هـ.
5 ـ ولايـة مسلمة بن مُخلد الأنصاري (47 ـ 62 هـ):
هو مسلمة بن مُخلد الأنصاري الخزرجي، الأمير، نائب مصر لمعاوية، يكنى أبا معن وقيل: أبا سعيد ، وقيل: أبا معاوية، له صحبة ولا صحبة لأبيه. قال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مُخلّد ، فقرأ سورة البقرة ، فما ترك واواً ولا ألفاً. قال الليث: عزل عقبة بن عامر عن مصر في سنة سبع وأربعين ، فوليها مسلمة حتى مات زمن يزيد، وقد توفي سنة 62 هـ في ذي القعدة بالإسكندرية ، وكانت له جهود في الفتوحات بالشمال الإفريقي يأتي ذكرها بإذن الله تعالى ، وكان المغرب كله تابعاً له.
هذه هي أهم الولايات والولاة في عهد معاوية رضي الله عنه ، ويمكن تلخيص صلاحيات الولاة بالولايات على الإجمال ، كتعيين الموظفين ، وتشكيل مجالس شورى ، وإنشاء الجيوش وتجهيزها بالنسبة للولايات التي هي قريبة من حركة الفتح الإسلامي ، كمصر والبصرة ، والحفاظ على الأمن الداخلي ، والإشراف على الجهاز القضائي بالولاية ، والنفقات المالية ، ومراقبة الأوضاع بالولاية وغير ذلك من الصلاحيات.
 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022