الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
مختصر سيرة أبو هريره رضي الله عنه
الحلقة: التاسعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
 
أ ـ التعريف به:
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني ، كان اسمه في الجاهلية عبد شمس ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، واشتهر أبو هريرة بكنيته ، حتى غلبت على اسمه فكاد يُنسى ، وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال: كنيت أبا هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في كمي ، فقيل لي: أبو هريرة. وكان يرعى غنم أهله في صغره ، ويداعب هرته وكان يقول: لا تكنوني أبا هريرة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كناني أبا هر ، والذكر خير من الأنثى.
ب ـ إسلامه:
هاجر أبو هريرة من اليمن إلى المدينة ليالي فتح خيبر ، وكان ذلك سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو في اليمن ، ووصل المدينة وصلى الصبح خلف سباع بن عرفطة الذي كان قد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أثناء غزوة خيبر.
وقد لازم أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اخر حياته ، وقصر نفسه على خدمته ، وتلقى العلم الشريف منه ، فكان يدور معه ويدخل بيته ، ويصاحبه في حجه وغزوه ، ويرافقه في حله وترحاله ، في ليله ونهاره ، حتى حمل عنه العلم الغزير الطيب ، فكانت صحبته أربع سنوات ، وقد اتخذ الصُّفة مقاماً له ، وخدم الرسول صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه ، وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عريف أهل الصفة ، فقد كان أعرف الناس بهم وبمراتبهم.
جـ دعوته لأمه للإسلام:
قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة ، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره ، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، قلت: يا رسول الله ! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم اهدِ أم أبي هريرة»، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف ، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء ، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته وأنا أبكي من الفرح ، قال: قلت: يا رسول الله! أبشر ، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة. فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً. قال: قلت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم حبب عبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين». فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
د ـ عبادة أبي هريرة رضي الله عنه وأسرته:
كان أبو هريرة رضي الله عنه ورعاً ، ملتزماً سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يحذر الناس من الانغماس في ملذات الدنيا ، وشهواتها ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، لا يفرق في ذلك بين غني ولا فقير ، أو بين أمير وحقير ، وأخباره في هذا الصدد كثيرة ، وكان يخشى الله كثيراً في السر والعلن ، ويذكر الناس به ، ويحثهم على طاعته ، وكان عابداً يصوم النهار ويقوم الليل ، ويتناوب قيامه هو وزوجته ، وابنته ، وكان يهتم بعمران بيته بعبادة الله تعالى؛ فعن أبي عثمان النهدي قال: تضيَّفت أبا هريرة سبعاً ، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً: يصلي هذا ، ثم يوقظ هذا ، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا؛ فبيت أبي هريرة أشراقه مضيئة تبين لنا بيوت المسلمين في ذلك العهد، فهو بيت عامر بالصلاة طوال الليل ، فأين تجد الشياطين لها مكاناً في هذا البيت؟ إنها تربية عالية على التقوى والعمل الصالح من الحافظ الكبير والعالم الرباني أبي هريرة رضي الله عنه ، واستجابة كريمة من امرأة طاهرة زكية وخادم صالح مطيع.
إن أبناء الدنيا حينما يكلفون خدمهم ، بعمل كبير ، فإنما يكلفونهم بأعمال الدنيا ، ويرون أنه لا مصلحة لهم بتكليفهم بعمل الاخرة ، أما أبناء الاخرة فإنه من كمال سرورهم أن يروا خدمهم يجتهدون في أعمال الاخرة ، لأنهم يكسبون بذلك أجراً على حسن توجيههم.
هـ فقره وعفافه:
كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين ، صبر على الفقر الشديد حتى إنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع ، يطوي نهاره وليله من غير أن يجد ما يقيم صلبه ، قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق ، ثم يأتي أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: لا ؛ قال: فإني صائم ، وكان قنوعاً راضياً بنعم الله ، فإذا أصبح لديه خمس عشرة تمرة أفطر على خمس، وتسحر على خمس ، وأبقى خمساً لفطره ، وكان كثير الشكر لله ، كثير الحمد والتسبيح والتكبير على ما أتاه الله من فضل وخير.
و ـ حلمه وعفوه:
كانت عند أبي هريرة زنجية قد غمتهم بعملها ، فرفع يوماً السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به ، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه ، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل، وهكذا يوازن أبو هريرة رضي الله عنه بين قدرته على تلك الخادمة وقدرة الله تعالى عليه ، فيفضل اتقاء سخط الله سبحانه وتعالى وعذابه على تنفيذ مقتضى سخطه هو ، فيتورع عن عقوبة تلك الخادمة ويحسن إليها بدلاً من إساءتها بإعتاقها لوجه الله عز وجل ، وبهذا يكون قد جمع بين عدد من الأعمال الصالحة، .. خشية الله تعالى ، والعفو عن المسيء ، والإحسان إليه ، وهذا يبين لنا عمق تصور الصحابة رضي الله عنهم للحياة الاخرة ، واستحضارهم رقابة الله تعالى، وسعيهم الحثيث لبلوغ رضاه.
ز ـ ولايته على البحرين في عهد عمر رضي الله عنه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل أبا هريرة مع العلاء الحضرمي إلى البحرين ، لينشر الإسلام ، ويفقه المسلمين ، ويعلمهم أمور دينهم ، فحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتى الناس ، وفي عهد عمر رضي الله عنه استعمله على البحرين؛ فقدم بعشرة آلاف ، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله وعدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما ، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت ، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ. فنظروا فوجدوا كما قال، وقد قاسمه عمر رضي الله عنه مع جملة من قاسمهم من العمال ، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى ، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيراً منك ، يوسف عليه السلام ، فقال: يوسف نبي ابن نبي ، وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى عملكم ثلاثاً واثنتين ، فقال: فهل قلت خمساً ؟ قال: لا. أخاف أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم ، وأن يضرب ظهري ، وينزع مالي ، ويشتم عرضي.
ح ـ اعتزاله الفتن:
كان أبو هريرة يوم حصار عثمان رضي الله عنه عنده في الدار مع بعض الصحابة وأبنائهم ، الذين جاؤوا ليدفعوا الغوغاء عنه ، وقد حفظ ولد عثمان له يده واحترموه حتى أنه لما مات أبو هريرة كان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع ، وقد اعتزل أبو هريرة رضي الله عنه الفتن بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه.
ط ـ مرحه ومزاحه:
كان أبو هريرة رضي الله عنه حسن المعشر ، طيب النفس ، صافي السريرة ، كان يحب الفكاهة والمزاح ، ومع هذا كان يعطي كل شيء حقه ، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها ، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء ، بل أظهرت تواضعه ، وحسن خلقه ، فربما استخلفه مروان على المدينة ، فيركب حماراً قد شدَّ عليه بَرْذعة وفي رأسه خلبة من ليف ، يسير فيلقى الرجل ، فيقول: الطريق؛ قد جاء الأمير.
ويمر أبو هريرة في السوق ، يحمل الحطب على ظهره ـ وهو يومئذ أمير لمروان ـ فيقول لثعلبة بن أبي مالك القرظي: أوسع الطريق للأمير يا بن أبي مالك ، فيقول: يرحمك الله يكفي هذا!! فيقول أبو هريرة: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه. وكان يحب إدخال السرور إلى نفوس الأطفال ، فقد يراهم يلعبون بالليل لعبة الإعراب ، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون فيفزع الصبيان منه ويفرون هاهنا وهاهنا يتضاحكون. قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه في الليل ، فيقول: دع العُراق للأمير ـ يعني قطع اللحم ـ فنظرت ، فإذا ثريد بزيت.
ي ـ حياته العلمية:
صحب أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات ، وسمع منه كثيراً ، وشاهد دقائق السنة ، ووعى تطبيق الشريعة، وكان همه طلب العلم ، وأمله التفقه في الدين ، وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة ، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تسألني من الغنائم التي يسألني أصحابك؟» قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله ، فنزع نمرة كانت على ظهري ، فبسطها بيني وبينه ، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها ، فحدَّثني حتى إذا استوعبت حديثه ، قال: اجمعها فصُرْها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدّثني.
وكان يقول رضي الله عنه: إنّكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يُحدِّثون مثله ؟! وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصَّفق في الأسواق ، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم ، وكنت امرأً مسكيناً من مساكين الصفة ، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون ، وأعي حين ينسون ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: «إنَّه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي ، ثم يجمع إليه ثوبه ، إلا وعى ما أقول». فبسطت نمرة عليَّ ، حتى إذا قضى مقالته ، جمعتها إلى صدري؛ فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك شيئاً، وفي رواية: إنه حدثنا يوماً فقال: «من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي ، ثم يقبضه إليه ، لم ينس شيئاً سمع مني أبداً». ففعلت؛ فوالذي بعثه بالحق ، ما نسيت شيئاً سمعته منه.
وعن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من نفسه».
وكان أبو هريرة حافظاً متقناً ، ضابطاً لما يروي ، دقيقاً في أخباره ، فقد اجتمعت فيه صفتان عظيمتان تتم إحداهما الأخرى:
الأولى: سعة علمه وكثرة مروياته.
والثانية: قوة ذاكرته وحسن ضبطه وهذا غاية ما يتمناه أولو العلم.
ويذكر لنا أبو الزعيزعة كاتب مروان ما يثبت إتقانه وحفظه ، فيقول: دعا مروان أبا هريرة فجعل يسأله ، وأجلسني خلف السرير ، وجعلت أكتب عنه ، حتى إذا كان رأس الحول ، دعا به ، فأقعده من وراء الحجاب ، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب ، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخَّر. ولم يكن أبو هريرة راوية للحديث فقط ، بل كان من رؤوس العلم في زمانه ، في القران والسنة والاجتهاد ، فإن صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاحت له أن يتفقه في الدين ، ويشاهد السنة العملية ، عظيمها ودقيقها؛ فتكونت عنده حصيلة كثيرة من الحديث الشريف ، كل ذلك هيأ أبا هريرة لأن يفتي المسلمين في دينهم نيفاً وعشرين سنة ، والصحابة كثيرون آنذاك.
ك ـ أصح الطرق عن أبي هريرة في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حكي عن ابن المديني: أن من أصح الأسانيد إطلاقاً حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وأصح ما روي من الحديث عن أبي هريرة ما جاء عن:
ـ الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة.
ـ أبي الزناد ، عن الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز ـ ، عن أبي هريرة.
ـ مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة.
ـ سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة.
ـ معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة.
ـ معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة.
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022