من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
بيعة يزيد بن معاوية
الحلقة: الثالثة والسبعون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
كان يزيد غائباً حين حضر معاوية الموت، فلما حضر يزيد كان قد دفن، فقصد يزيد باب الصغير حيث دفن أبوه، وهناك صلى على أبيه ومن خلفه المسلمون، فكبر أربعا ، ولما خرج من المقبرة أُتي بمراكب الخلافة فركب، ثم دخل البلد، وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء ـ وهو قصر بناه معاوية ـ فاغتسل ولبس ثياباً حسنة، ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن معاوية عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله ـ عز وجل ـ فإنه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده ولست اسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان.
وقال لهم في خطبته هذه: إن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله. فافترق الناس، وهم لا يفضلون عليه أحداً .
وفي هذه الخطبة شرح يزيد سياسته في قيادة الأمة، ووضح خطته التي سيلتزمها أثناء خلافته، وهي سياسة استطاع أن يكسب بها قلوب أهل الشام. وقد أجمعت ـ غالبية ـ الأمة على بيعة يزيد، أو بمعنى اخر جددت له البيعة بعد وفاة أبيه، ولم يبايع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم . وسيكون لكل منهما مع يزيد شأن ـ كما سنرى بإذن الله تعالى ـ أما بقية الصحابة فقد بايعوا يزيد جمعاً للكلمة وحفظاً لوحدة الأمة وخوف الفتنة، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومحمد ابن الحنفية ، أما أهل الشام والعراق وغيرها من الأقاليم فقد بايعوا، وكانت المعارضة ليزيد في أهل الحجاز يتزعمها الحسين بن علي وابن الزبير، ومما قيل من الشعر في بيعة يزيد ما قاله عبد الله بن همَّام يعزِّيه في أبيه:
اصبرْ يزيدُ أعظمَ فقدْ فارقتَ ذا مقة
واشكرْ حُباءَ الذي بالملكِ حَابَاكا
لا رُزءَ أعظم في الأقوام نعلمُه
كما رُزِئتَ ولا عُقْبى كعُقباكا
أصبحتَ راعي أهلِ الدِّينِ كلِّهم
فأنتَ ترعاهُمُ واللهُ يَرْعاكَ
وفي معاويةَ الباقي لنا خَلفٌ
إذا نعيتَ و لا نسمع بمنعاك
يعني معاوية بن يزيد .
تولى يزيد الأمر بعد أبيه في رجب سنة (60 هـ 680 م) فأقر عمال أبيه على ولاياتهم، فكان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وأمير الكوفة النعمان بن بشير، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد .
وركز يزيد في أخذ البيعة من النفر الذين لم يبايعوه في حياة أبيه، وكان أهمهم عنده الحسين بن علي، فكتب إلى أميرها الوليد بن عتبة كتاباً يخبره فيه بوفاة معاوية، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد: فإن معاوية كان عبداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محموداً، ومات براً تقياً والسلام .
ونظراً لتساهل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أخذ البيعة من الحسين وابن الزبير لأنه كان رجلاً يحب العافية ، وأنه كان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً ، كما أنه كان يخشى عذاب الله وعقابه، فقد امتنع عن سجن الحسين أو قتله وقال: ... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسيناً، سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع؟! والله إني لا أظن أمراً يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت .
كان إصرار يزيد على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ هو الشرارة الأولى في الفتنة التي اندلعت بين المسلمين، فقد شعر كل منهما بأنه مطلوب، وأنه إذا لم يبايع فسيكون ضحية طيش يزيد، وأن سيوف أعوان الخليفة الجديد أصبحت مسلولة عليهم، فعادا إلى البيت الحرام، ولجأا إلى مكة المكرمة يطلبان فيها الأمان، ويحتميان بحمى الله فيها، ولئن أصاب يزيد حين أبقى عمال أبيه على الولايات، ليضمن استقرار الأمور فيها، فقد خانته عبقريته في إصراره على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير، حيث كان إصراره هذا موحياً بعدم تأمين الحياة لهما، وبأن بقاءهما في عهد يزيد محفوف بالمخاطر، وذلك أدى بهما إلى أن يبحثا عن الأمان، ولم يجداه إلا في تجييش أنصارهما، وحشدهم في مكان يصعب على يزيد وأعوانه أن يقتحموه، وكان ذلك في مكة المكرمة، في جوار بيت الله الذي قال فيه: ولم يكن لهذا التجمع وذلك الحشد نتيجة سوى المواجهة التي أودت بحياة الآلاف من { وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } [سورة آل عمران:97]، وكان على رأس هؤلاء جميعاً الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ حيث قتل في كربلاء ـ شهيداً ـ على يد فئة ظالمة من جيوش يزيد .
لقد كانت غلطة من يزيد، بدأ بها حياته، وظلت تلاحقه حتى مماته، ولم يستطع التخلص منها، وبدأت سلسلة الأخطاء تتوالى في حياة الخليفة، وكلما ادلهمت الأمور من حوله، عظمت الأخطاء، وتضخمت المشكلات، وكلما أراد حل مشكلة، عرض لها بمشكلة أخطر منها وأفظع، فمن الإصرار على عدم البيعة إلى تكوين جبهة معارضة تستعد للقتال، ومنها إلى معركة كربلاء، ثم تتمخض هذه المعركة عن قتل ابن بنت رسول الله ﷺ، وتؤدي إلى غضب المسلمين، وإعلان ابن الزبير الخروج على الخليفة، وتستمر العداوة والبغضاء حتى تكون وقعة الحرة، وتتشوه صورة الخليفة في أعين المسلمين، ثم يتوفى بعد ذلك بقليل؛ أين غاب حلم معاوية عن ولي عهده؟! أغلب الظن أن الذي ورط يزيد في هذه الأخطاء الشنيعة هو غياب المستشارين الحكماء عن مجلسه، وحداثة سنه، وقلة خبرته. كما أن يزيد كان يفقد حلم أبيه، وتنقصه قوة إرادته في الحلول السلمية، لقد كانت الكوارث الكبرى في عهد يزيد: مقتل الحسين رضي الله عنه، ووقعة الحرّة بالمدينة، وحصار مكة لابن الزبير، لقد وصم يزيد عهده بوصمة لن يمحوها ماء البحار، ولن تزيل مرارتها عذوبة الأنهار .
إن أهل السنة والجماعة يعتبرون بيعة يزيد صحيحة، ولكنهم عابوا عليها أمرين:
1 ـ قالوا: إن هذه بدعة جديدة، وهي أنه جعل الخلافة في ولده فكأنها صارت وراثة بعد أن كانت شورى وتنصيص على غير القريب، فكيف بقريب وابن مباشر ؟! فمن هذا المنطق رُفض المبدأ بغض النظر عن الشخص فهم رفضوا مبدأ أن يكون الأمر وراثة.
2 ـ أنه كان هناك من هم أولى من يزيد بالخلافة كابن عمر وابن الزبير والحسين وغيرهم، وهذا من وجهة نظر أهل السنة .
أما من وجهة نظر الشيعة فإنهم يرون الإمامة والخلافة في علي وأبنائه فقط، فهم لا يعيبون بيعة يزيد بذاتها، وإنما يعيبون كل بيعة لا تكون لعليّ وأولاده، فهم يعيبون بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية كلها بغض النظر عن المبايَعِ له، لأنهم يرون أنها نص لعليّ وأبنائه إلى أن تقوم الساعة ، وقد ناقشت معتقد الشيعة في الإمامة في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبينت بطلانه.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: