السبت

1446-10-28

|

2025-4-26

حلقات من كتاب السِّيرة النَّبويّة (عرض وقائع وتحليل أحداث)

للدكتور علي محمد محمد الصّلابيّ

الحلقة الرابعة عشر (14) :

دار الأرقم مركز القيادة ومدرسة الدعوة النبوية

تَذْكُرُ كتب السِّيرة أنَّ اتِّخاذ دار الأرقم مَقَراً لقيادة الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولى الَّتي برز فيها سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا صلُّوا؛ ذهبوا في الشِّعاب، فاستخفَوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  في شِعْبٍ من شِعاب مكَّة؛ إذ ظهر عليه نفرٌ من المشركين؛ وهم يصلُّون، فناكَرُوهم. وعابوا عليهم ما يصنعون حتَّى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بِلَحي  بعيرٍ، فشجَّه فكان أوَّل دمٍ أُريق في الإسلام» [ابن هشام (1/281 - 282)] .

أصبحت دار الأرقم مركزاً جديداً للدَّعوة يتجمَّع فيه المسلمون، ويتلقَّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كلَّ جديدٍ من الوحي، ويستمعون له صلى الله عليه وسلم  وهو يذكِّرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كلَّ ما في نفوسهم وواقعهم؛ فيربيهم صلى الله عليه وسلم  على عينه كما تربَّى هو على عين الله - عزَّ وجلَّ - وأصبح هذا الجمع هو قرَّة عين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم   .

  • الأسباب في اختيار دار الأرقم:

كان اختيار دار الأرقم لعدَّة أسبابٍ؛ منها:

1 - أنَّ الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحدٍ أن يتمَّ لقاء محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم  وأصحابه رضي الله عنهم بداره.

2 - أنَّ الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه من بني مخزوم، وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لـواء الحرب ضدَّ بني هاشم، ولم يكن الأرقم معروفاً بإسلامه، ولن يخطر في البال أن يكون اللِّقاء في داره؛ لأنَّ هذا يعني: أنه يتمُّ في قلب صفوف العدوِّ.

3 - أنَّ الأرقم بن أبي الأرقم كان فتىً عند إسلامه؛ فلقد كان في حدود السَّادسة عشرة من عمره، ويوم أن تفكِّر قريش في البحث عن مركز التجمُّع الإسلامي، فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصِّغار من أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ بل يتَّجه نظرها، وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه صلى الله عليه وسلم  .

قد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التَّجمُّع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكرٍ رضي الله عنه، أو غيره؛ ومن أجل هذا نجد أنَّ اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من النَّاحية الأمنيَّة، ولم نسمع أبداً: أنَّ قريشاً داهمت ذات يومٍ هذا المركز، وكشفت مكان اللِّقاء .

  • المادة الدراسية في دار الأرقم:

كانت المادَّة الدراسية الَّتي قام بتدريسها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  في دار الأرقم، القرآن الكريمَ، فهو مصدر التَّلقِّي الوحيد، فقد حَرَصَ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على توحيد مصدر التَّلقِّي، وتفرُّده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج، والفكرة المركزيَّة الَّتي يتربَّى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القُدُس ينزل بالآيات غضَّةً طريَّةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعها الصَّحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرةً، فَتُسْكَب في قلوبهم، وتتسرَّب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدَّم، وكانت قلوبهم، وأرواحهم تتفاعل مع القرآن، وتنفعل به، فيتحوَّل الواحد منهم إلى إنسانٍ جديدٍ؛ بقيمه، ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه، وتطلُّعاته. لقد حرص الرَّسول صلى الله عليه وسلم  حرصاً شديداً على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادَّة الدراسية، والمنهج الَّذي تتربَّى عليه نفوس أصحابه، وألا يختلط تعليمهم بشيءٍ من غير القرآن .

في دار الأرقم تعلَّموا: أنَّ القرآن الكريم، وتوجيهات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، هما الدُّستور الأعلى؛ للدَّعوة، والحياة، والدَّولة، والحضارة. كان القرآن الكريم المادَّة الدراسية الوحيدة الَّتي تلقَّاها تلاميذ مدرسة الأرقم على يد المربِّي الأعظم محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فهو المصدر الوحيد للتلقِّي، وعليه تربَّى الجيل الفريد من هذه الأمَّة العظيمة، فهو كتاب هذه الأمَّة الحيُّ، ورائدها النَّاصح، وهو مدرستها الَّتي تتلقَّى فيها دروس حياتها.

لقد تلقَّى الرَّعيل الأوَّل القرآن الكريم بجدِّيَّةٍ، ووعيٍ، وحرصٍ شديدٍ على فهم توجيهاتـه، والعمل بها بدقَّـةٍ تامَّةٍ، فكانوا يلتمسون من آياته ما يوجههم في كلِّ شأنٍ من شؤون حياتهم الواقعيَّة، والمستقبليَّة.

نشأ الرَّعيل الأوَّل على توجيهات القرآن الكريم، وجاؤوا صورةً عمليَّةً لهذه التَّوجيهات الرَّبَّانيَّة، فالقرآن كان هو المدرسة الإلهيَّة، الَّتي تخرَّج منها الدُّعاة، والقادة الرَّبَّانيُّون، ذلك الجيل الَّذي لم تعرف له البشريَّة مثيلاً من قبلُ، ومن بعدُ. لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لينشئ به أمَّةً، ويقيم به دولةً، وينظِّم به مجتمعاً؛ وليربِّيَ به ضمائر، وأخلاقاً، وعقولاً، ويبني به عقيدةً، وتصوُّراً، وأخلاقاً ومشاعر، فخرَّج الجماعة المسلمة الأولى الَّتي تفوَّقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات؛ العقديَّة، والرُّوحيَّة، والخلقيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسية، والحربيَّة .

  • شخصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:

كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسةٍ للتَّربيَة والتَّعليم عرفتها البشريَّة، كيف لا، وأستاذها هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  أستاذ البشريَّة كلِّها، وتلاميذها هم الدُّعاة والهداة، والقادة الرَّبانيُّـون الَّذين حرَّروا البشريـة من رِقِّ العبوديـة، وأخرجوهم من الظُّلمات إلى النُّـور، بعد أن ربَّاهم الله تعالى على عينه تربيةً غير مسبوقةٍ، ولا ملحوقةٍ؟! .

في دار الأرقم وفَّق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى تكوين الجماعة الأولى من الصَّحابة، الَّذين نقلهم من هباء الجاهلية إلى نور الإيمان، وأصبحوا جميعاً من عظماء الرِّجال ومشاهير العالم، وصنَّاع التَّاريخ البشريِّ، حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشريَّة.

إنَّ خريجي مدرسة الأرقم من عظماء الرِّجال في العالم، وهُمُ الَّذين قامت عليهم الدَّعوة، والجهاد، والدَّولة، والحضارة فيما بعد؛ فلم يَجُدِ الزَّمان بواحدٍ مثل أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعمرَ بن الخطَّاب، وعثمان بن عفَّان، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وسعدِ بن أبي وقَّاصٍ... إلخ.

لقد استطاع الرَّسول المربِّي الأعظم صلى الله عليه وسلم  أن يربِّي في تلك المرحلة السرِّيَّة، وفي دار الأرقم، أفذاذ الرِّجال الَّذين حملوا راية التَّوحيد والجهاد والدَّعوة؛ فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.

كانت قدرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  فائقةً في اختيار العناصر الأولى للدَّعوة، في خلال السَّنوات الثَّلاث الأولى من عمر الدَّعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعداداً خاصّاً ليؤهِّلهم لتسلُّم القيادة، وحمل الرِّسالة، فالرِّسالات الكبرى، والأهداف الإنسانيَّة العظمى، لا يحملها إلا أفذاذ الرِّجال، وكبار القادة، وعمالقة الدُّعاة. كانت دار الأرقم مدرسةً من أعظم مدارس الدُّنيا، وجامعات العالم، التقى فيها الرَّسول المربِّي صلى الله عليه وسلم  بالصَّفوة المختارة من الرَّعيل الأوَّل (السَّابقين الأوَّلين)، فكان ذلك اللِّقاء الدَّائم تدريباً عمليّاً لجنود المدرسة على مفهوم الجنديَّة، والسَّمع، والطَّاعة، والقيادة، وآدابها، وأصولهـا، ويشحـذ فيـه القائد الأعلى جنـده وأتباعـه بالثِّقـة بالله، والعزيمة، والإصرار، ويأخذهم بالتَّزكية والتَّهذيب، والتَّربية، والتَّعليم. كان هذا اللِّقاء المنظَّم يشحذ العزائم، ويقوِّي الهمم، ويدفع إلى البذل، والتَّضحية، والإيثار .

كانت نقطة البدء في حركة التَّربية الرَّبانيَّة الأولى لقاء المدعو بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيحدث للمدعو تحوُّلٌ غريب واهتداءٌ مفاجئ بمجرَّد اتِّصاله بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيخرج المدعو من دائرة الظَّلام إلى دائرةِ النُّور، ويكتسب الإيمان، ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشَّدائد، والمصائب في سبيل دينه الجديد، وعقيدته السَّمحة.

كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرِّك الأوَّل للإسلام؛ فشخصيته صلى الله عليه وسلم  تملك قوى الجذب، والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورةٍ لبشرٍ في تاريخ الأرض، والعظمة دائماً تُحَبُّ، وتحاط من النَّاس بالإعجاب، ويلتفُّ حولها المعجبون، يلتصقون بها التصاقاً بدافع الإعجاب والحبِّ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم  يضاف إلى عظمته تلك: أنَّه رسول الله، مُتلقِّي الوحي من الله، ومبلِّغه إلى الناس، وذلك بُعْدٌ آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه؛ فهو لا يحبُّه لذاته فقط، كما يُحبُّ العظماء من النَّاس، ولكن أيضاً لتلك النَّفحة الرَّبَّانيَّـة الَّتي تشملـه من عند الله، فهو معـه في حضرة الوحي الإلهيِّ المكرَّم؛ ومن ثَمَّ يلتقي في شخص الرَّسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم، والرَّسول العظيم، ثمَّ يصبحان شيئاً واحداً في النِّهاية، غير متميِّز البداية، ولا النِّهاية، حبٌّ عميقٌ شاملٌ للرَّسول البشر، أو للبشر الرَّسول، ويرتبط حبُّ الله بحبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره نقطة ارتكاز المشاعر كلِّها، ومحور الحركة الشُّعورية، والسُّلوكية كلِّها، كذلك كان هذا الحبُّ الَّذي حرَّك الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة هو مفتاح التَّربية الإسلاميَّة، ونقطة ارتكازها، ومنطلقها الَّذي تنطلق منه .


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022