السبت

1446-10-28

|

2025-4-26

ملك ليبيا محمد بن إدريس السنوسي، نزاهة ملك ليبيا وعفته، وأقوال المؤرخين فيه، ووفاته

بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي

الحلقة السابعة

13 سبتمبر 2019

نزاهة ملك ليبيا وعفته، وأقوال المؤرخين فيه، ووفاته:
حينما وقع الانقلاب في سبتمبر (1969 م) كان الملك في رحلة إلى تركية واليونان، ولم يكن معه مال خاص ينفق منه، ومع ذلك فحينما عرض عليه المسؤول المالي للرحلة استلام ما تبقى في عهدته من مخصصات ؛ رفض الملك ذلك بعزة نفس وقال له: (يا بني أنا بالأمس كنت ملك ليبيا، ولكني لم أعد كذلك اليوم، وبالتالي فإن هذا المال لم يعد من حقي، ويجب أن يسلم إلى خزينة الشعب).
تقول الملكة فاطمة في رسالة لها بتاريخ 13 سبتمبر (1969 م) تصف فيها حالها ومال زوجها الملك بعد وقوع الانقلاب: ((إننا نحمد الله على أن تيجان الملكية لم تبهرنا قط، ولا نشعر بالأسف لفقدها، فنحن كنا دائماً نعيش حياة متواضعة، ولم يغب عن أذهاننا مثل هذا اليوم، كما نحمد الله كثيراً على أننا لا نملك مليماً واحداً في أي مصرف حتى يشغل بالنا المال، ولم نغير أبداً معاملتنا لأصدقائنا وهي لن تتغير مع الأيام).
لقد تحدث الكثيرون عن سيرة ملك ليبيا السابق، ويجدر بنا أن نشير إلى بعض الذين عاصروه واتصلوا به شخصيّاً، واطلعوا عن قرب على الكثير من أخلاقه الرفيعة ؛ ففي مقال نشر في صحيفة (الشرق الأوسط) في عددها بتاريخ 23 يونيو (1983 م) ؛ نعى السيد مصطفى بن حليم رئيس وزراء ليبيا السابق الملك محمد إدريس السنوسي، وتحدث عن جهاد ليبيا تحت قيادته، وكان ضمن ما قاله عن شخصيته:
(لقد عرفت الملك إدريس رحمه الله معرفة حميمة على مدى نصف قرن تقريباً، عرفته منذ كنت صبيّاً، وعملت معه وزيراً ثم رئيساً لحكومته ثم مستشاراً له، كما عرفته وأنا مواطن عادي، وكما عرفته وهو لاجأى في مصر، وكنت دائم التردد عليه في ملجئه في القاهرة، وفي طول نصف القرن عرفت فيه المجاهد المسلم الزاهد المتواضع، لم يُعِرْ مباهج الدنيا أي اهتمام، وكان الملك المؤمن الورع، والأب العطوف، والقائد الحكيم المتواضع، كما كان يحن دائماً للهجرة إلى مكة والمدينة المنورة ليجاور في الأراضي المقدسة، مرة واحدة رأيته يتلوى ألماً ويبكي دماً ويهدر هديراً، وهو الهادي الصبور ؛ كان ذلك يوم سقوط القدس الشريف في أيدي الصهاينة، كان يخشى الله في السر والعلانية، كان كريماً ندي اليد، خجولاً طالما صرف مخصصاته الرسمية في أوجه الخير سرّاً، وفي سنة (1955 م) عندما أنشئت الجامعة الليبيا تبرع بقصر المنار في بنغازي ليكون لها المقر، وكذلك فعل سنة (1956 م)، تنازل عن قصر الغدير كمقر للكلية العسكرية، كان دائماً يتردد على الأراضي المقدسة للحج والعمرة).
ويقول الدكتور مجيد خدوري عن دوره في إنشاء الدولة الليبية وتحقيق الوحدة الوطنية:
(إن الدور الذي قام به الملك إدريس في إنشاء الدولة الليبيا بالغ الأهمية ؛ إذ إنه لم يكتف بأن أقدم على العمل بجرأة لتخليص برقة من إيطالية في الحرب العالمية الثانية فحسب، بل استعمل نفوذه الشخصي وحنكته السياسية لإقناع أصحاب النفوذ من الزعماء الطرابلسيين بوجوب الالتفاف حول النظام الاتحادي الذي لولاه ما كانت لتتم وحدة ليبيا قط، ولما كان حفيداً وخليفة للسيد محمد السنوسي، فضلاً عن ذلك فقد كسب أيضاً ثقة زعماء القبائل البرقاوية، وأحاط نفسه بنفر من الرجال المقتدرين الذين تفانوا في تأييده، كان بعض هؤلاء الزعماء قد تبعوه إلى المنفى، والاخرين الذين ظلوا في البلاد لمقاومة الإيطاليين قاموا بذلك بتوجيهه، فلما عاد إلى برقة بعد الحرب لم يكن ثمة مجال للتساؤل عمن يمكن أن تؤول إليه الرئاسة في برقة، ولم يكن الزعماء الطرابلسيين يجهلون أثر الملك إدريس في توحيد البلاد، إذ إنهم أدركوا أنه الشخص الوحيد الذي يكنُّ له الجميع الاحترام، لكنهم اختلفوا على شكل الحكومة المنوي إنشاؤها، وعلى الحدود الدستورية لاختصاصاته... قبل عرش ليبيا بدافع من شعوره بالواجب الوطني ليزود البلاد المقسمة بالزعامة اللازمة لها).
وأما المؤرخ دي كاندول صاحب كتاب (الملك إدريس عاهل ليبيا) فقد قال: ((على الرغم من محاولات تشويه صورة الملك في أذهان الناس، وتهويل بعض نقاط الضعف التي لا ينفرد بها عن بقية البشر، إلا أن الحقبة الطويلة التي قضاها في خدمة بلاده وأمته قد ترسخت في أعماق التاريخ بما يكفي للصمود أمام كل المساعي الخبيثة.
إن الملك إدريس رمز لعهد مضى ولن يعود، ولكنه عهد زاهر يجدر بالليبيين جميعاً والعرب عموماً أن يعتزوا به).
وقال أيضاً: ((كانت الدعاية التي رافقت الانقلاب كاذبة مفترية في مزاعمها ضد الملك الذي حاولت أن تصوره مثل فاروق فاسقاً متهتكاً فاسد الذمة، وهو أبعد ما يكون عن تلك الصفات، فسُمْعَتُه الشخصية كانت فوق مستوى الشبهات ؛ سواء في بلاده أو في العالم العربي عامة كرجل شديد الورع والتقوى، كرّس حياته لحرية شعبه، وكان في سلوكه الخاص مثلاً للاعتدال والاستقامة الكاملة، وإن الحملة الدعائية التي تواصلت ضده على ذلك النحو كانت من نوع الإسفاف الرخيص الذي لا يقوم على أساس)).

وفاته:
استقر الملك إدريس رحمه الله تعالى في مصر ؛ حيث بقي مدى حياته الأخيرة بها، ولم يغادر مصر إلا مرتين ذهب فيهما إلى مكة للحج، وكانت وفاته في القاهرة بتاريخ (25 مايو 1983 م) وهو في سن الرابعة والتسعين.
وقد دفن الملك رحمه الله في المدينة المنورة، وكان قد طلب من جلالة الملك خالد بن عبد العزيز في لقاء لهما بموسم الحج سنة (1977 م) أن يأذن بدفنه متى حانت المنية في البقيع، فكفل الملك خالد للملك إدريس رغبته رحمهما الله، ثم إن الملك فهد بن عبد العزيز أجاز ذلك بعد وفاة الملك خالد بن عبد العزيز، ونقل جثمانه من القاهرة إلى المدينة المنورة في طائرة مصرية خاصة.

فنسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضوان، ونقول ما قاله المولى عز وجل: [الحشر: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحَشر: 10].
لقد تركت ما يتعلق بالمملكة الليبيا متعمداً في ذلك، إلى وقت اخر إن كان للعمر بقية، وأذن الله في مواصلة هذه المرحلة الطويلة التي بدأتها من الفتح الإسلامي إلى هذا الكتاب؛ لأنني أشعر بضعف المادة التي أمامي فيما يتعلق بتلك الأحداث ؛ لأن قضايا ذلك العصر على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لملابساتها واثارها الممتدة إلى عصرنا الحاضر، وخصوصاً وأنني قد بحثت في أسباب سقوط المملكة بحثاً دقيقاً، وطلبت من رجال عاشوا في تلك المرحلة ليساهموا معي في تتبع الأسباب التي أدت إلى سقوط الملكية الليبيا، ولكن التفاعل كان ضعيفاً، واعتذر البعض لأسباب أمنية، وقد علمت بأن بعض الذين عاصروا تلك الأحداث قد كتبوا مذكرات مهمة عن المرحلة، وينتظرون الوقت المناسب لنشرها؛ لذلك رأيت من الحكمة والتعقل التريث حتى يأذن الله في نشرها؛ لأنها سوف تساهم في إيجاد معلومات تساعد الباحثين على تقصي الحقائق للوصول إلى نتائج صحيحة مبنية على معلومات يقينية، ولا يفوتني في هذه الخاتمة أن أشيد بالمجهودات القيمة التي قام بها كل من الوزيرين السابقين: مصطفى بن حليم ومحمد عثمان الصيد في كتابة مذكراتهم ثم نشرها بغية استفادة الأجيال منها.
إن الجهود التي قام بها الوزيران السابقان تستحق الثناء والتقدير؛ لأنها أصبحت مرجعاً مهمّاً لتلك المرحلة، وأخذت قيمتها التاريخية والعلمية، وتعتبر من المبادرات الرائعة والرائدة لأن أصحابها عاشوا تلك الأحداث وساهموا في صناعتها، كما أنهم حطموا جدار الصمت، وكتبوا تاريخهم السياسي الذي في حقيقته أصبح ملكاً للأجيال الصاعدة بغض النظر عن اختلاف الاراء حول تلك المذكرات.
إن فترة المملكة الليبيا من عام (1951 م إلى 1969 م) غنية بالأحداث على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وهي تحتاج إلى دراسة واعية وباحث مدقق يتوخى العدل والإنصاف، ويعتمد على الله ثم على الوثائق والحجج والبراهين.
إن الاعتناء بتاريخ بلادنا وبلاد المسلمين تظهر أهميته في هذا العصر الذي استخدم فيه التاريخ كأداة لتوجيه الشعوب وتربيتها كما يريد القادة والساسة، بل استعان بهذا العلم أصحاب المذاهب الفكرية الهدامة في فلسفة مذاهبهم المادية وتدعيمها، حتى أصبح هذا العلم عند الأمم المتقدمة في مكانة سامية لا يعلوها علم آخر.
إن دراسة التاريخ بوجه عام، وتاريخ الأمة المسلمة على وجه الخصوص لا ينبغي في دراسته تحقيق الرغبات، والحاجات الدونية، بل من أجل الوصول إلى القمة العلية ؛ ألا وهي إحياء الأمة بكتاب الله وسنة رسوله (ص)، ومعرفة كيفية التعامل مع سنن النهوض والصعود بالشعوب، واجتناب سنن السقوط والهبوط، ولهذا قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} [غَافر: 21].
هذا وقد انتهيت من كتابة هذه السلسلة التاريخية يوم الثلاثاء 1 ربيع الأول (1420 هـ)، الموافق 15 يونيو (1999 م)، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل قبولاً حسناً، وأن يكرمنا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*} [فَاطِر: 2].

المراجع:

1.علي محمد الصلابي، الثمار الزكية للحركة السنوسية، دار الروضة، إستانبول، 2017.
2.محمد طيب الأشهب، إدريس السنوسي، دار العهد الجديد للطباعة، القاهرة.
3.محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، بيروت، ط1 1948.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022