حياة عمر بن عبد العزيز مع الناس:
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2)
الحلقة: 162
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
1 ـ اهتمامه بإصلاح المجتمع:
كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيراً، وعمل على إزالة ما يتفشَّى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتاباً طويلاً بليغاً، نورد بعض فقراته للأهمية وعظيم الفائدة، وفيه يقول: أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحداً نجَّى أحداً من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين.
وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم، وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله تعالى من فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهِر مثلَه علانية قومٌ يرجون لله وقاراً ويخافون منه غيراً، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ً} [الفتح: 29]. { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} [المائدة: 54 ]
ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الاباء، وإنما سبيل الله طاعته، ولقد بلغني أنه بطأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم: أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلُّف، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقاً، بل أولئك أسوؤكم أخلاقاً، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها، بل وقع فيها، إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سنة الله جل وعلا التي لا تتخلف، وهي: أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم؛ فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث: أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب.
ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة رضي الله عنهم، بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *} [التحريم: 9]. وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة معاملتهم.
ويصحح عمر في هذا الكتاب مفهوماً خاطئاً عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق قليل التكلف مقبل على نفسه، حيث يبين أن هذا سيِّئ الخلق، حيث يتعامل مع المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة، مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة، بل أقبل على هلكتها، حيث إن السكوت عن الإنكار معصية يحاسب عليها مرتكبها، وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف؛ فإنه قد تكلف أمراً عظيماً حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله ﷺ بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت كتب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاب من عمر إلا فيه رد مظلمة أو إحياء سنة أو إطفاء بدعة أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا .
2 ـ تذكيره الناس بالآخرة:
خطب عمر بن عبد العزيز ذات يوم فقال: إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم وما أنتم إليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمق، والمكذب به هالكاً. ثم نزل .
وهذه خطبة بليغة على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه، وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يعتبر حقاً أحمق؛ حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه .
ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، فقد بين عمر في بعض خطبه أن الإنسان خلق للأبد ولكنه من دار إلى دار ينقل؛ قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون.
وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس، لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترحلون، فالله الله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطل بكم الأمد، فتقسو قلوبكم فتكونوا كقوم دعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة .
وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيراً في خطبـه ومواعظه رحمه الله.
3 ـ تصحيح المفاهيم الخاطئة:
قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد أيها الناس فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصياً، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، ثم قال: إنه لحبيب عليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله .
ففي هذه الخطبة يُذكِّر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقرب يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح يبيِّض به صحيفته، ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادراً على التوبة النصوح والتزود بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة من اتباع سنة رسول الله ﷺ، وهذا بيان لأحد عنصري العمل الصالح، وهما: الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعاً لا ينقص العمل فيه الإخلاص، وإنما ينقصه اتباع السنة، حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم.
ثم بيَّن أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة؛ حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله. فإذا كان بعض الولاة قد تسول لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أو مجاملة الاخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهدوا السبل لذلك، فإنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سبب مهم من أسباب سريان تلك المخالفات، وهو ما لولاة الأمر من طاعة على الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثير على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح.
ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصياً ليس له اعتبار في النظر الشرعي؛ لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى من يوصف بالمعصية من وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا وهو في أعلى موقع من المسؤولية ـ كخليفة ـ دليل على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى.
ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربّى على توجيهه من أسلم من العجم، ومن هاجر من الأعراب حتى حسبوه هو الدين، وحينما يختلط العرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية؛ فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع وتتشربه قلوبهم ؛ لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفة جائرة، فيصعب بعد ذلك على المصلحين أن يخلّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرّبة المتراكمة على مر الزمن، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاة السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات، لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئاً من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسؤولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز؛ فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرة وسريعة المفعول، لأن معه ما خوَّله الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى، إلى جانب قوة السلطان المعهودة
4 ـ إنكاره العصبية القبلية:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن، وكان مما جاء في كتابه: إن ما هاجني على كتابي هذا أمر ذكر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثاً، ظاهر جفاؤهم، قليل علمهم بأمر الله، اغتروا فيه بالله غرة عظيمة، ونسوا فيه بلاءه نسياناً عظيماً، وغيروا فيه نعمه تغييراً لم يكن يصلح لهم أن يبلغوه، وذكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مُضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم لهم ولاية على من سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة، وأقربهم من كل مهلكة ومذلة وصُغُر، قاتلهم الله أية منزلة نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا، ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلف باطلاً. أو لم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: {إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٠} [سورة الحجرات:10] . وقوله: { ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣} [سورة المائدة:3]
وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالاً يتداعون إلى الحلف، لا حلف في الإسلام، قال: وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة، فكان يرجو أحد من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الاثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه، وأنا أحذر كل من سمع كتابي هذا ومن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصناً أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة، تحذيراً بعد تحذير، وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير، وأشهد عليهم الذي هو اخذ بناصية كل دابَّة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم الُكم بالذي كتبت به إليكم نصحاً، مع أني لو أعلم أن أحداً من الناس يحرّك شيئاً ليُؤخذ له به أو ليدفع عنه ـ أحرص ـ والله المستعان ـ على مذلته؛ من كان: رجلاً أو عشيرة أو قبيلة أو أكثر من ذلك، فادع إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء، ثم ليكن أهل البر وأهل الإيمان عوناً بألسنتهم، وإن كثيراً من الناس لا يعلمون. نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا، والسلام .
في هذا الكتاب يعالج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز انحرافاً خطيراً طرأ على المجتمع الإسلامي انذاك، وهو أن طائفة من المسلمين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تعمر أفكارهم بالعلم الشرعي، فقد اتخذوا لأنفسهم علاقات من روابط الجاهلية التي تقوم على القبائل والعشائر، فيعطي الواحد منهم ولاءه لقبيلته سواء بالحق أو بالباطل، وسواء بالعدل أو بالظلم، ويجعل من قبيلته قضية يهتم لها ويدافع عنها ويدعو لها، حتى أصبحوا بها إخوة في الله متحابين بعد أن كانوا أعداء متحاربين، وسادوا بجماعتهم العالم، وقد استفحلت هذه القضية حتى أصبح بعض المجاهدين يتحاربون بينهم بدعوى قبليَّة، مما سبب تأخراً في تقدم الجهاد، وجرأ أصحاب البلاد المفتوحة على الانتقاض على المسلمين مرة بعد مرة، ووصلت الحال في بعض البلاد إلى أنه كلما تولى رجل له قبيلة في تلك البلاد قرب أفراد قبيلته وقواهم وتقوَّى بهم، فتحدث الفتنة وتثور القبائل الأخرى، وما ذاك إلا بسبب طرح رابطة الإسلام التي هي نعمة كبرى على المسلمين، واتخاذ الروابط الجاهلية بديلاً عنها .
5 ـ رفضه للقيام بين يديه:
لما ولي عمر بن عبد العزيز قام الناس بين يديه، فقال: يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض فرائض وسن سنناً، من أخذ بها لحق ومن تركها مُحِق .
أراد عمر أن يقضي على العادات الموروثة التي أشبه بها الولاة انذاك الأكاسرة والقياصرة، وعزم بشكل صارم على العودة بالأمة إلى منهج الخلفاء الراشدين، وعمر هنا يحجِّم دافعين قويين يدفعانه إلى مجاراة عشيرته في مظاهرهم.. أولهما: طموح النفس نحو الظهور وفرض السلطة والهيبة في قلوب الناس، وثانيهما: رغبة عشيرته الملحة في الإبقاء على هذه المظاهر، وتشنيعهم عليه في مخالفة ما كان عليه أسلافه، ولكنه تغلب على هذين الدافعين بحزم وإيمان قوي، وكان الدافع الذي يدفعه إلى التواضع ورفض المظاهر الدنيوية هو خوفه من الله تعالى، ورغبته فيما عنده، وطموح فكره نحو الآخرة وتجاوز المستقبل الدنيوي، وكان هذا الدافع أقوى بكثير من الجواذب الأرضية، فنجح في إلجام نفسه عن هواها، وإسكات أصحاب المظاهر الخادعة، وتصحيح مفاهيم المجتمع فيما يجب أن تكون عليه الولاة والعلاقة بينهم وبين الرعية. وفي قوله: إن الله فرض فرائض. بيان لأسباب السعادة والشقاوة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن طبقها لحق بركب المتقين في الدنيا، وأكرم به من رفقة صالحة، وسيق يوم القيامة إلى رضوان الله تعالى والجنة، وأكرم به من مال وعاقبة .
6 ـ تقديره أهل الفضل:
ذكر الحافظ ابن كثير: أن ولد قتادة بن النعمان وفد على عمر بن عبد العزيز فقال له: من أنت؟ فقال مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينه
فعادتْ كما كانتْ لأولِ أمرِهَا
فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّدِّ
فيا حُسْنَها عيناً ويا حُسْنَ ما رَدِّ
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
تلكَ المكارمُ لا قعبانَ من لبنٍ
شيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
ثم وصله وأحسن جائزته رضي الله عنه .
ففي هذا الخبر موقف لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في إكرام ولد قتادة بن النعمان لما وفد عليه حينما عرف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله ﷺ، وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية.
ومن تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض، وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضى زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه ـ وهو به غير عارف ـ ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعاً وثمانين درهماً أو بضعاً وتسعين درهماً، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يسلط على بيت المال .
ففي هذا الخبر صورة من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين؛ فهو أولاً لم يبال بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين، والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها من اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان؛ فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب، بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعاً في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانياً نزل من مكانه حتى لا يعلو ذلك العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره عند عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مكن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحينما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع الدنيا الذي يتنافس عليه الصغار، وتطمح ببصرها نحو نعيم الآخرة الخالد الذي يتنافس فيه الكبار .
7 ـ المرء بأصغريه قلبه ولسانه:
كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلام صغير، وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحلية ، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك ـ أي: أحق بمجلسك هذا من هو أكبر منك سناً ـ. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلى بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك ، فأعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه، فما كان من عمر إلا أن شجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه وجراءة ليكون هذا الحادث موقفاً تربوياً يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة، فقال:
عظنا يا غلام وأوجز، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك، ثم نظر عمر في سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول:
تعلَّمْ فليسَ المرءُ يولدُ عالماً
وإنَّ كبيـرَ القومِ لا علـم عنـدَهُ
وليسَ أخو علمٍ كمنْ هو جاهل
صغيرٌ إذا التفتْ عليهِ المحافلُ
8 ـ امرأة مصرية تشتكي لعمر:
كان عمر يتابع أمور المسلمين ويفتح الأبواب على مصراعيها لسماع أخبارهم، فقد كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحدٌ من الناس إذا خرج كتاباً إلا حمله، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتاباً تذكر فيه أن لها حائطاً قصيراً، وأنه يقتحم عليها فيسرق دجاجها، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتِ من قصر حائطك، وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتاباً إلى أيوب بن شرحبيل ـ وكان أيوب عامله على صلاة مصر وحربها ـ آمره أن يبني لك ذلك ويحصنه لك مما تخافين إن شاء الله. وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها، وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها.
فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنة حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصنه لها .
9 ـ اهتمامه بفداء الأسرى:
كتب إلى الأسارى بالقسطنطينية: أما بعد فإنكم تعدون أنفسكم أسارى، معاذ الله ! بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أنني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصصت أهليكم بأوفر نصيب وأطيبه، وإني قد بعثت إليكم خمسة دنانير، ولولا أني خشيت إن زدتكم أن يحبسه طاغية الروم عنكم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما سئل به، فأبشروا ثم أبشروا، والسلام عليكم .
وفي هذا الكتاب يتجلى سمو أخلاق عمر وعظم شعوره بالمسؤولية كنموذج راقٍ لحاكم مسلم يخاف الله فيراعيه، ويتقي الله في حقوق رعيته بمنتهى الإخلاص والأمانة ؛ حيث واسى أسرى المسلمين لدى الروم، حيث شبههم بالمرابطين الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، فهم بهذا ينالون أجر المرابطين، وإن جانب هذه المواساة المعنوية فإنه قد واساهم بالمال الذي أمدهم به، وأزاح الهمّ عنهم بما أخبرهم به من كفالة أسرهم في حال غيبتهم، كما أنه وعدهم بمفاداتهم لفك أسرهم، وهذه معاملة كريمة يستحقها هؤلاء الأسرى الذين خرجوا بأنفسهم لحماية الإسلام ونصره .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: