مواقف عمر بن عبد العزيز مع الناس (٢)
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 163
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
1 ـ قضاء ديون الغارمين:
كتب إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين، فكُتب إليه: إنّا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته، فكتب عمر: لا بد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين .
ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشؤون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها، ويجبرون بها كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون بها عن معسرها، ويسدون بها خلة معوزها .
2 ـ خبر الأسير الأعمى عند الروم:
أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمر بموضع، فسمع فيه رجلاً يقرأ القران ويطحن، فأتاه فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام ـ مرتين أو ثلاثاً ـ، ثم سلم عليه فقال له: وأنّى بالسلام في هذا البلد؟! فأعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، قال له: ما شأنك؟ فقال: إني أسرت في موضع كذا وكذا، فأتي بي إلى صاحب الروم، فعرض علي النصرانية فأبيت، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيَّرني إلى هذا الموضع، يرسل إلي كل يوم بحنطة أطحنها وبخبزة اكلها، فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيت دموع عمر قد بلّت ما بين يديه، ثم أمر، فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد: فقد بلغني خبر فلان بن فلان فوصف له صفته، وأنا أقسم بالله لئن لم ترسله إلي لأبعثنَّ إليك من الجنود جنوداً يكون أولها عندك واخرها عندي.
ولما رجع إليه الرسول قال: ما أسرع ما رجعت! فدفع إليه كتاب عمر بن عبد العزيز، فلما قرأه قال: ما كنا لنحمل الرجل الصالح على هذا، بل نبعث إليه به، قال: فأقمت أنتظر متى يخرج به، فأتيته ذات يومٍ، فإذا هو قاعد قد نزل عن سريره أعرف في وجهه الكابة، فقال: تدري لم فعلت هذا؟ فقلت: لا ـ وقد أنكرت ما رأيت ـ فقال: إنه قد أتاني من بعض أطرافي أن الرجل الصالح قد مات، ولذلك فعلت ما فعلت، ثم قال: إن الرجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يترك بينهم إلا قليلاً حتى يخرج من بين أظهرهم. فقلت له: أتأذن لي أن أنصرف ـ وأيست من بعثه الرجل معي ـ فقال: ما كنا لنجيبه إلى ما أمر في حياته، ثم نرجع فيه بعد مماته، فأرسل معه الرجل .
3 ـ المرأة العراقية التي فرض لبناتها من بيت المال:
قدمت امرأة من العراق على عمر بن عبد العزيز، فلما صارت إلى بابه قالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟ فقالوا: لا، فلجي إن أحببت، فدخلت المرأة على فاطمة وهي جالسة في بيتها، وفي يدها قطن تعالجه، فسلمت، فردت عليها السلام وقالت لها: ادخلي، فلما جلست المرأة رفعت بصرها ولم تر شيئاً له بال، فقالت: إنما جئت لأعمر بيتي من هذا البيت الخرب، فقالت لها فاطمة: إنما خرَّب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك، قال: فأقبل عمر حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار فانتزع منها دلاء فصبها على طين كان بحضرة البيت ـ وهو يكثر النظر إلى فاطمة ـ فقالت لها المرأة: استتري من هذا الطيّان؛ فإني أراه يديم النظر إليك، فقالت: ليس هو بطيان، هو أمير المؤمنين.
قال: ثم أقبل عمر فسلم ودخل بيته، فمال إلى مصلى كان له في البيت يصلي فيه، فسأل فاطمة عن المرأة، فقالت: هي هذه، فأخذ مكتلاً له فيه شيء من عنب فجعل يتخير لها خيره يناولها إياه، ثم أقبل عليها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: امرأة من أهل العراق لي خمس بنات كُسْلٌ كسْد، فجئتك أبتغي حسن نظرك لهنَّ، فجعل يقول: كسل كسد، ويبكي، فأخذ الدواة والقرطاس فكتب إلى والي العراق، فقال: سمي كبراهنّ، فسمتها ففرض لها، فقالت المرأة: الحمد لله، ثم سأل عن الثانية والثالثة والرابعة، والمرأة تحمد الله ففرض لها، فلما فرض للأربعة استفزها الفرح فدعت له فجزته خيراً، فرفع يده وقال: كنا نفرض لهنّ حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هؤلاء الأربع يفضن على هذه الخامسة. فخرجت بالكتاب حتى أتت به العراق، فدفعته إلى والي العراق، فلما ذهبت إليه بالكتاب بكى واشتد بكاؤه، وقال: رحم الله صاحب هذا الكتاب، فقالت: أمات؟ قال: نعم، فصاحت وولولت، فقال: لا بأس عليك، ما كنت لأرد كتابه في شيء، فقضى حاجتها وفرض لبناتها .
4 ـ إحياؤه لسنة العطاء:
قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يحل لكم أن تأخذوا لموتاكم، فارفعوهم إلينا واكتبوا لنا كل منفوس نفرض له . وفي رواية أخرجها ابن سعد من خبر أبي بكر بن حزم قال: كنا نخرج ديوان أهل السجون فيخرجون إلى أعطياتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز، وكتب إليّ: من كان غائباً قريب الغيبة فأعطِ أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة، فاعزل عطاءه إلى أن يقدم أو يأتي نعيه، أو يوكل عندك بوكالة ببينة على حياته فادفعه إلى وكيله .
وبهذا أحيا عمر بن عبد العزيز سنة العطاء الإسلامي التي كانت في عهد الخلفاء الراشدين وعهد معاوية رضي الله عنهم، ثم اندثرت بعد ذلك واقتصر العطاء على بعض وجهاء الأمة، وكان بنو أمية يأخذون من ذلك الشيء الكثير على مراتبهم، فلما قسم عمر بن عبد العزيز ذلك على الأمة شمل جميع أفرادهم، وهذا من أبرز مواقفه وإصلاحاته التجديدية.
5 ـ إغناؤه المحتاجين عن المسألة:
قدم على عمر بن عبد العزيز بعض أهل المدينة، فجعل يسأله عن أهل المدينة. فقال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه وأغناهم الله. قال: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبطللمسافرين، فالتمس ذلك منهم بعد، فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز .
وهذا من نتائج المنهج العادل الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في توزيع أموال المسلمين، حيث حُرِمَت القلة المتمكنة من الإسراف وأصبح ما يصرف لفرد من هذه الفئة يصرف لعشرات المسلمين، فوصل المال العام إلى فئات من لم يكن يصل إليها من قبل، فاستغنوا به عن بعض الأعمال الشاقة التي كانت تُدِرُّ عليهم مبالغ زهيدة.
6 ـ دفع المهور من بيت المال:
اهتمّ عمر بن عبد العزيز بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، فقال أبو العلاء: قُرِئ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله .
وهذا قرار مهم في إصلاح المجتمع، لأن صلاحه يتوقف على تحصين أبنائه بالزواج وظفرهم بالسعادة الزوجية، وقد يكون المهر عائقاً لبعض الفقراء دون الزواج، خصوصاً في حال غلاء المهور، فإذا كانت الدولة توفر ذلك لمن لا يستطيع ذلك، فإنها تسهم في تكوين المجتمع الصالح وحفظه من أسباب الفساد والاضطراب .
7 ـ جهوده في التقريب بين طبقات المجتمع:
قال يونس بن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز في بعض الأعياد وقد جاء أشراف الناس حتى حفُّوا بالمنبر وبينهم وبين الناس فرجة،
فلما جاء عمر صعد المنبر وسلم عليهم، فلما رأى الفرجة أومأ إلى الناس: أن تقدموا، فتقدموا حتى اختلطوا بهم .
لقد دأب الولاة من بعد عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه على رفع طبقات من الناس وتمييزهم على غيرهم بالعطاء والمجالس وغير ذلك، وسرى ذلك في الأمة حتى أصيب بعض أفرادها بالضعف وأصبحوا يرون أنهم ليسوا أهلاً للجلوس مع أفراد الطبقات المميزة الذين أصبح الناس يطلقون عليهم اسم (الأشراف)، ولقد بلغ الضعف بعامة المجتمع إلى عدم التجاسر على الاقتراب من أفراد الطبقة الخاصة حتى في المساجد التي من المفترض فيها أن يتنافس المصلون على القرب من الإمام لما في ذلك من زيادة الثواب، فلما تولى الخلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز كان من أجلِّ اهتماماته أن يقارب بين فئات المجتمع، فذلك بأن يضع من سمعة الطبقات العالية وأن يزيل كبرياءهم، وأن يرفع من شأن الطبقات المستضعفة وأن يقوي معنوياتهم ويزيل شعورهم بالضعف، فكان من جهوده في ذلك المساواة بينهم في العطاء، ولا شك أن المال له أهمية كبرى في الرفع من شأن الناس وخفضهم، وفي هذا الخبر تبين لنا اهتمامه في هذا المجال بالإشارة إلى عموم الناس ليقتربوا من الخاص، ويختلطوا بهم حتى تزول تلك الفجوة بين المسلمين التي خلفها ظلم الولاة وسوء إدارتهم .
8 ـ شعوره الكبير بالمسؤولية تجاه أفراد المجتمع:
قالت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر: .. إن عمر رحمة الله عليه كان قد فَرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، وكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان من ماله، فصلى ركعتين ثم أقعى واضعاً رأسه على يديه، تسيل دموعه على خديه، يشهق الشهقة يكاد ينصدع قلبه لها، وتخرج لها نفسه حتى برق الصبح فأصبح صائماً، فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين أليس كان منك ما كان؟ قال: أجل فعليك بشأنك وخلِّيني وشأني، قالت: فقلت: إني أرجو أن أتَّعظ، قال: إذاً أخبرك، إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن رسول الله ﷺ حجيجي فيهم، فخفت أن لا يقبل الله تعالى مني معذرة فيهم، ولا تقوم لي مع رسول الله ﷺ حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت لها عيني، ووجع لها قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت منها خوفاً، فاتَّعظي إن شئت أو ذَرِي .
وهذا تقدير بالغ من عمر رحمه الله للمسؤولية التي تحملها، حيث تذكر ضعفاء المسلمين وأصحاب الحاجات، بالرغم مما يبذله من جهد متواصل في التعرف على أحوال الأمة، ولكن لما كان هذا الأمر غير محصور خشي أن يكون قد لقي من المسلمين من لم تُرفع إليه حاجته، فيكون مسؤولاً عنه، وفي تذكره للحساب والجنة والنار دليل على عمق إيمانه بالغيب حتى أصبح أمامه كالمشاهد، فأصبح ذلك دافعاً له إلى العدل والرحمة، والمبالغة في تفقد أحوال الأمة، وفي بكائه الشديد دلالة على عظمة خوفه من الله عز وجل، وقد عصمه الله تعالى بهذا الخوف، فارتفع بفكره وسلوكه عن المغريات، وقوي أمام جميع التحديات، فكلما عظم عليه خطب مجابهة الناس تذكر النار والحساب، فهان عليه كل خطب عظيم، وصغر في نظره كل أمر جسيم .
9 ـ في الإنفاق على الذمي إذا كبر ولم يكن له مال:
الإسلام دين العدالة والسماحة والاهتمام بالضعيف، والإسلام يهتم بكل من يعيش على أرضه ولو كان على غير دين الإسلام، وعمر بن عبد العزيز يُجَسِّد هذه القيم الرفيعة بتطبيقه أحكام هذا الدين، فيقرر أن الذمي إذا كبر ولم يكن له مال ولا حميم ينفق عليه فإن نفقته في بيت مال المسلمين، فقد روى ابن سعد: قال عمر بن بهرام الصرّاف: قرئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فانظر أهل الذمة فارفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه.
10 ـ أكله مع أهل الكتاب:
كان عمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم من ماله درهماً في طعام المسلمين ثم يأكل معهم، وكان ينزل بأهل الذمة فيقدمون له من الحلبة المنبوتة والبقول وأشباه ذلك مما كانوا يضعون في طعامهم، فيعطيهم أكثر من ذلك ويأكل معهم، فإن أبوا أن يقبلوا ذلك منه لم يأكل منه .
11 ـ عمر والشعراء:
لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه، فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة ـ وكان من خطباء أهل الشام ـ فلما راه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
يا أيُّها الرجلُ المرخِي عمامتَهُ
هذا زمانُكَ فاستأذنْ لنا عُمَرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مرّ بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
يا أيها الرجلُ المرخِي مطيتَهُ
أبلِغْ خليفَتنا إنْ كنتَ لاقِيه
لا تنسَ حاجتَنا لُقِّيْتَ مغفرةً
هذا زمانُكَ إنِّي قدْ مضَى زمَنِي
أنَّي لدى الباب كالمصفودِ في قرنِ
قد طالَ مُكثِي عنْ أهلي وعنْ وطني
فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي ما لي وللشعراء؟! قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله ﷺ أسوة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، فأنشده يقول:
رأيتُكَ يا خيرَ البريةِ كلِّها
شرعتَ لنا دينَ الهُدى بعد جَوْرِنا
ونورتَ بالتبيانِ أمراً مدلساً
نشرتَ كتاباً جاءَ بالحقِّ معلما
عنِ الحقِّ لمَّا أصبحَ الحقُّ مظلما
وأطفأتَ بالقرانِ ناراً تضرما
قال: ويحك يا عدي، من بالباب منهم، فذكر له أسماء الشعراء، عمر بن عبد الله بن ربيعة، والفرزدق، والأخطل، وجرير، فرد الجميع إلا جريراً فسمح له بالدخول، فدخل جرير وهو يقول:
إنَّ الذي بعثَ النبيَّ محمداً
وسِعَ الخلائقَ عدلُهُ ووفاؤُه
إني لأرجو منكَ خيراً عاجلاً
جَعَلَ الخلافةَ للإِمامِ العادلِ
حتى ارعوى فأقامَ ميلَ المائلِ
والنفسُ مولعةٌ بحبِّ العاجِل
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقاً، فأنشأ جرير يقول:
أأذكر الجهدَ والبلوى التي نزلتْ
كمْ باليمامةِ مـن شعثاءَ أرملةٍ
ممن يعدُّكَ تكفي فقد والِدِه
يدعوكَ دعوةَ ملهوفٍ كأنَّ بهِ
خليفةَ الله ماذا تأمرون بنا
ما زلتُ بعدكَ في همٍّ يُؤرِّقُني
لا ينفعُ الحاضرُ المجهودُ بادينا
إنا لنرجو إِذا ما الغيثُ أخلفَنَا
نالَ الخلافةَ إذ كانتْ له قدراً
هذي الأراملُ قد قضَّيتَ حاجَتَها
الخيرُ ما دمتَ حيّاً لا يفارقُنا
أَمْ قَدْ كفاني بما بُلِّغْتَ من خيري
ومن يتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والنَّظَرِ
كالفَرخِ في العشِّ لم ينهضْ ولم يطرِ
خبلاً مـن الجِنَّ أو مسّاً من البشرِ
لسنا إليكم ولا في حال منتظر
قد طالَ في الحيِّ إصعادي ومنحدري
ولا يعودُ لنا بادٍ على حضرِ
من الخليفةِ ما نرجو مـن المطرِ
كما أتى ربَّهُ موسى على قدرِ
فمنْ لِحَاجَةِ هذا الأرملِ الذَّكَرِ
بوركتَ يا عمرَ الخيراتِ من عمرِ
فقال: يا جرير ما أرى لك فيما ها هنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع. فأعطاه من صلب ماله مئة درهم... ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوؤكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراضٍ، ثم أنشأ يقول:
رأيتُ رُقَى الشيطانِ لا تستفزُّه
وقد كانَ شيطاني مِنَ الجِنِّ راقيا
وهذا منهج جديد في عهد الدولة الأموية للتعامل مع الشعراء، فقد كان الشعراء يمدحون الملوك والأمراء طلباً لرفدهم، ويدخلون في قصائدهم المبالغات والكذب، إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فقصدوه، فكان موقفه من الشعراء كما تبين من الخبر المذكور، فقطع تلك العادة التي تفسد بنية المجتمع وتشجع على سيادة الأخلاق السيئة من الكذب والتغرير والنفاق، فقطع تلك العادة السيئة ولم تعد إلى الظهور إلا بعد وفاته، ولقد اعترف جرير بأن الشياطين كانوا من وراء الشعراء في استفزاز الأمراء الممدوحين، وأن عمر بن عبد العزيز قد تميز بحصانته من أولئك الشياطين .
12 ـ تأثره بشعر الزهد وعلاقته بسابق البربري:
قرّب عمر بن عبد العزيز من الشعراء من التزم شعر الزهد وذكر الموت والخوف من الآخرة، ويبدو أن أقرب الشعراء لقلب عمر هو سابق البربري ، فكان يعظ عمر وينشده الشعر فيتأثر عمر ويبكي، وذات يوم دخل سابق البربري وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكمْ من صحيحٍ باتَ للموتِ آمناً
فلمْ يستطعْ إذ جاءه الموتُ بغتةً
فأصبَحَ تبكيهِ النساءُ مُقَنَّعاً
وقُرّبَ مـن لحدٍ فصارَ مقيلَه
أتَتْه المنايا بغتةً بعدما هَجَعَ
فراراً ولا منْهُ بقوَّتِـهِ امتنعَ
ولا يسمع الداعي وإن صوته رفعَ
وفارقَ ما قدْ كانَ بالأمس قَدْ جَمَعَ
قال الرواي ميمون بن مهران: فلم يزل عمر يبكي ويضطرب حتى غشي عليه، فقمنا فانصرفنا عنه .
وقد قال سابق البربري قصيدة طويلة فيها مواعظ وحكم، تأثر بها عمر بن عبد العزيز تأثراً بالغاً؛ وهي:
بسمِ الذي أنزلتْ من عندِهِ السُّوَرُ
إن كنتَ تعلمُ ما تأتي وما تذرُ
واصبرْ على القدرِ المجلوبِ وارضَ به
فما صفا لامرئ عيشٌ يُسَرُّ بهِ
واستخبرِ الناسَ عمَّا أنت جاهلُه
قد يرعوي المرءُ يوماً بعد هفوتِهِ
من يطلبِ الجورَ لا يظفرْ بحاجتِهِ
وفي الهدى عبرٌ تُشْفَى القلوبُ بها
وليسَ ذو العلمِ بالتقوى كجاهِلها
والرُّشدُ نافلةٌ تُهدى لصاحِبِها
وقد يوبق المرءَ أمرٌ وهو يحقرُهُ
لا يشبعُ النفسَ شـيءٌ حين تُحْرِزُهُ
ولا تزالُ، وإن كانتْ لها سعةٌ
وكلُّ شيءٍ له حالٌ تغيِّرُه
والذكرُ فيه حياةٌ للقلوبِ كما
والعلم يجلُو العَمَى عن قلبِ صاحبهِ
لا ينفعُ الذكرُ قلباً قاسياً أبداً
والموتُ جسرٌ لمن يمشي على قدمٍ
فهمْ يمرّونَ أفواجاً وتجمُعُهم
من كان فـي معقلٍ للحِرزِ أسلمَهُ
حتى متى أنا في الدنيا أخو كَلَفٍ
ولا أرى أثراً للذكرِ في جَسَدي
لو كان يُسْهِرُ عيني ذكرُ اخرتي
إذاً لداويتُ قلباً قد أضرَّ بِهِ
ما يلبثُ الشيءُ أن يبلى إذا اختلفتْ
والمرءُ يصعدُ ريعانُ الشبابِ به
وكلُّ بيتٍ خرابٌ بعـد جِدَّتِهِ
بينا يُرى الغُصن لَدْناً في أرومَتِهِ
وكم من جمع أشث الدهر شملهم
وربَّ أصيد سامي الطرفِ معتصب
يظـلُّ مفترِشَ الديباجِ محتجباً
قد غادرته المنايا وهـو مستلبٌ
أبعد ادمَ ترجونَ البقاءَ وهلْ
لهمْ بيوتٌ بمستنِّ السيولِ وهل
إلى الفناءِ وإن طالتْ سلامتُهُم
إنَّ الأمورَ إذا استقبلتَها اشتبهتْ
والمرءُ ما عاشَ في الدُّنيا له أملٌ
لها حلاوةُ عيشٍ غيرُ دائمةٍ
إذا انقضتْ زُمَرُ اجالها نزلتْ
وليس يزجرُكُم ما توعظونَ به
أصبحتم جَزَراً للموت يقبضكُم
لا تبطروا واهجروا الدُّنيا فإنَّ لها
ثم اقتدوا بالأُلى كانوا لكم غُرَراً
حتى تكونوا على منهاجِ أوَّلِكم
ما لي أرى الناسَ والدنيـا موليةٌ
لا يشعرون بما في دينهم نَقَصوا
الحمدُ لله أما بعدُ يا عمرُ
فكنْ على حَذَرٍ قد ينفعُ الحذرُ
وإن أتاكَ بما لا تشتهي القدَرُ
إلا سيتبعُ يوماً صفْوَه كَدَرُ
إذا عميتَ فقدْ يجلُو العَمَى الخبرُ
وتحكمُ الجاهلَ الأيامُ والعِبَرُ
وطالبُ الحقِّ قد يُهدى له الظَّفَرُ
كالغيثِ ينضُرُ عن وسميِّهالشجرُ
ولا البصيرُ كأعمى ما له بَصرُ
والغيُّ يكرهُ منه الوِرْدُ والصَّدرُ
والشيءُ يا نفسُ ينمى وهو يُحَتَضِرُ
ولا يزالُ لها في غيره وَطَرُ
لها إلى الشيءِ لم تظفرْ به نَظَرُ
كما تُغيِّرُ لونَ اللِّمَّةِ الغِيَرُ
يحيي البلادَ إذا ما ماتَتِ المطرُ
كما يُجلّي سوادَ الظلمةِ القَمَرُ
وهل يلينُ لقولِ الواعظِ الحجرُ؟
إلى الأمورِ التي تُخشى وتُنتظَرُ
دارٌ إليها يصيرُ البدوُ والحَضَرُ
أو كانَ في خمرٍ لم ينجِهِ خَمَرُ
في الخيرِ مني لَذَّاتِها صَعَرُ
والماءُ في الحجرِ القاسي لَهُ أثَرُ
كما يُؤرِّقني للعاجِلِ الشَّهَرُ
طولُ السقامِ ووهنُ العظمِ يَنْجَبِرُ
يوماً على نقضِهِ الروحاتُ والبكَرُ
وكلُّ مصعدةٍ يوماً ستنحدرُ
ومِنْ وراءِ الشبابِ الموتُ والكَبَرُ
ريَّانَ أضحى خُطاماً جوفُهُ نَخِرُ
وكل شمل جميع سوف ينشر
بالتاج نيرانُهُ للحربِ تستعرُ
عليه تبنى قباب الملكِ والحَجرُ
مُجَدَّلٌ تربُ الخدَّين منعفِرُ
تبقى فروعٌ لأصلٍ حين يَنْعَقِرُ
يبقى على الماءِ بيتٌ أُسُّهُ مَدَرُ
مصيرُ كلِّ بني أنثى وإن كَثُرُوا
وفي تدبُّرها التبيانُ والعِبَرُ
إذا انقضى سفرٌ منها أتى سفرُ
وفي العواقبِ منها المرُّ والصَّبُرُ
على منازِلِها من بعدها زُمَرُ
والبُهْمُ يزجرها الراعي فتنزجرُ
كما البهائمُ في الدُّنيا لها جَزَرُ
غِبَّاً وخيماً، وكفرُ النعمةِ البَطَرُ
وليسَ مِنْ أمةٍ إلا لها غُرَرُ
وتصبروا عن هوى الدنيا كما صَبَرُوا
وكلُّ حبلٍ عليها سوف ينبتِرُ
جهلاً وإن نَقَصَتْ دنياهُمُ شعروا
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بالشعر كثيراً ومن تلك الأبيات التي ترنّم بها:
ولا خيرَ في عيشِ امرئ لم يكنْ له
منَ اللهِ في دارِ القرارِ نصيبُ
ومن ذلك أيضاً:
تُسَرُّ بما يَبْلى وتفرحُ بالمُنَى
نهاركَ يا مغرورُ سهْوٌ وغفلةٌ
وسعيُك فيما سوفَ تكرهُ غِبَّه
كما اغترَّ باللذاتِ في النَّومِ حالمُ
وليلُكَ نومٌ والرّدَى لك لازمُ
كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ
وذات يوم نظر عمر بن عبد العزيز، وهو في جنازة إلى قوم قد تلثَّموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظلِّ، فبكى وأنشد:
من كانَ حين تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ
ويألفُ الظـلَّ كي تبقى بشاشتُهُ
في قعرِ مُظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ
تجهَّزي بجهاز تبلُغين به
أو الغبارُ يخافُ الشَّينَ والشعَثَا
فسوف يسكنُ يوماً راغماً جَدَثا
يطيلُ في قعرِها تحت الثَّرى لُبثا
يا نفس قبل الرّدى لم تُخلقي عبثا
13 ـ بين الشاعر دكين بن رجاء وعمر بن عبد العزيز:
قال دكين: امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاباً، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر عليَّ، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مُضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: إن خرجت في ليلتك، فقلت: إنّي لم أودِّع الأمير، ولا بدَّ من وداعه، قالوا: إنّه لا يحتجب عن طارق ليل، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت وعنده شيخان أعرفهما، فودّعته. فقال لي: يا دكين، إنَّ لي نفساً توّاقة، فإن أنا صرت إلى أكثر ممّا أنا فيه، فبعَيْنٍ ما أرَيَنَّك، فقلت: أشهد لي عليك بذلك، فقال: أُشهد الله به، قلت: ومن خَلْقِهِ؟ قال: هذين الشخصين، فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت أَعرفُك؟ قال: سالم بن عبد الله، قلت: لقد استسمنت الشاهد، وقلت للاخر: من أنت؟ قال: أبو يحيى مولى الأمير ، فخرجت بهنَّ إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنَّ بالبركة حتى اعتقدت منهنَّ الإبل والغلمان،فإني لبصحراء فلج ، إذ ناعٍ ينعى سليمان بن عبـد الملك، قلت: فمن القائم بعده ؟ قال: عمر بن عبد العزيز، فتوجهت نحوه، فلقيني جرير بالطريق جائياً من عنده، فقلت: يا أبا حزرة من أين؟ فقال: من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، ولكن عوِّل عليه في مال ابن السبيل، فانطلقت فإذا هو في عرصة داره قد أحاط به الناس، فلم يمكنِّي الرِّجْل إليه، فناديت:
يا عمرَ الخيراتِ والمكارمِ
إنِّي امرؤٌ منْ قَطَنِ بْنِ دارمِ
إذ ننتجي واللهُ غيرُ نائمِ
وعُمرَ الدَّسائعِ العظائمِ
أطلبُ دَيْناً من أخٍ مكارمِ
في ظلمةِ الليلِ وليلٍ عاتمِ
عندَ أبي يَحيى وعندَ سالمِ
فقام أبو يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، قال: أعرفها: ادنُ منِّي يا دُكين، أنا كما ذكرت لك، إنَّ نفسي لم تنل أمراً إلا تاقت إلى ما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا، فنفسي تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أموال الناس شيئاً فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما. فأَمَرَ لي بألف، فو الله ما رأيت ألفاً كان أعظم بركة منه . ودكين هو القائل:
إذا المرءُ لم يدنسْ من اللُّؤمِ عِرضُهُ
وإنْ هو لَمْ يُضْرِع عن اللُّؤمِ نَفْسَهُ
فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ
فليسَ إلى حسنِ الثَّناء سبيلُ
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: