الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(عمر بن عبد العزيز والعلماء)

الحلقة: 165

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1442 ه/ مارس 2021

كانت أيام سليمان بن عبد الملك بداية لمشاركة العلماء في مسؤوليات الدولة، وقربهم من مصدر القرار السياسي وتأثيرهم فيه، فلما جاء عهد عمر بن عبد العزيز أصبحت مشاركة العلماء في إدارة شؤون الدولة قوية فعالة، وشاملة متنوعة، فعلى رأس الدولة عمر وهو يعد من أبرز العلماء وكبار الفقهاء، وساس الدولة كعالم وليس كملك، وتوسعت دائرة مشاركة العلماء في عهده، فبدأت في مركز اتخاذ القرار في العاصمة؛ حيث أحاط عمر نفسه بجملة من العلماء للإشارة عليه ومعاونته، وأبعد من سواهم، فأصبحوا فرسان الحلبة وحدهم، فساهموا في صياغة سياسة الدولة صياغة شرعية خالصة، وامتدت مشاركتهم في المسؤولية إلى بقية مرافق الدولة، فأسندت إليهم مختلف المناصب والأعمال، ولا يعدو القول الحقيقة إذا قلنا: إن الدولة في عهد عمر بن عبد العزيز كانت دولة العلماء، فهي نموذج لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية؛ اتحدت فيها السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية على أحسن حال .
وقد اتسعت مشاركة العلماء في عهد عمر بن عبد العزيز بشكل لم يسبق له مثيل في الدولة الأموية، ويرجع السبب
في ذلك إلى أمور، أهمها: حرص عمر على تقريب العلماء وجعلهم بطانته ووزراءه وأعوانه، ويتعلق السبب الاخر بالعلماء؛ حيث لم ير أحد من العلماء لنفسه أي مبرر في البعد عن عمر والمشاركة في أعماله، فمن كان منهم يرى اعتزال الخلفاء والأمراء من منطلق أن على العلماء أن يصونوا العلم ولا يذهبوا للسلاطين ابتداء، بل على السلاطين أن يقدروا العلم والعلماء ويسعوا إليهم، من كان يرى ذلك فقد تحقق له شرطه؛ حيث كان عمر يقصد العلماء ويبعث إليهم، ومن كان يرى اعتزال الخلفاء والأمراء خوفاً على دينه من مخالطتهم لم يعد لهذا المحذور وجود؛ حيث إن مجالس عمر ومخالطته تعين المرء على دينه، لهذا أقبل العلماء على عمر، ورأوا أن من الواجب عليهم تحمل عبء المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولم يعد لمعتذر عذر، بل أقبلوا عليه ، وقالوا كما ذكر ابن عساكر: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله . فهذا ميمون بن مهران الذي يقول: لا تدخل على سلطان وإن قلت: امره بطاعة، والذي يقول: لا تعرف الأمير ولا تعرف من يعرفه، ومع هذا لا يجد لنفسه بُدّاً من العمل عند عمر بن عبد العزيز ومشاركته .
وتتجلى مشاركة العلماء في عهد عمر في عدة مظاهر؛ أهمها:
1 ـ قربهم من الخليفة وشد أزره للسير في منهجه الإصلاحي:
أسهم العلماء في مساعدة عمر بن عبد العزيز في السير في منهجه الإصلاحي؛ حيث أيدوه فيما اتخذه من قرارات إصلاحية، كما كان لبعضهم أثر في اتخاذ عمر لبعض تلك القرارات. فمن ذلك ما أثر عن العالم العامل عراك بن مالك ، فقد ذكر ابن عمه أنه كان من أشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، وقد تعرض بسبب هذا الموقف لغضب بني أمية فيما بعد، فنفاه يزيد بن عبد الملك بعد توليه الخلافة إلى دهلك
وكان عراك بن مالك الغفاري شيخاً كبيراً ومحدثاً تابعياً ثقة من خيار التابعين، وكان زاهداً عابداً، وقد انتفع به
أهل تلك الجزيرة التي نفي إليها ، وكان هذا التابعي الجليل يسرد الصوم؛ وقال فيه عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً أكثر صلاة من عراك بن مالك، وقد مات في منفاه رحمه الله في إمرة يزيد بن عبد الملك عام 104 هـ .
وكان ميمون بن مهران من المقربين من عمر بن عبد العزيز؛ فقد روى ابنه عمر بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: ما زلتُ ألطف في أمر الأمة أنا وعمر بن عبد العزيز، حتى قلت له: ما شأن هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل وهي من بيت المال، فكتب إلى الافاق لتركه، فكانت كتبه نحو شبر .
وميمون بن مهران قال عنه الذهبي: الإمام الحجة عالم الجزيرة ومفتيها ، وقال عنه عمر بن عبد العزيز: إذا ذهب هذا وضرباؤه، صار الناس بعده رجراجة، وكان يكبر عمر بن عبد العزيز بعشرين سنة.
وكان ميمون بن مهران من علماء السلف وممَّن له مواقف وأقوال في نصرة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ؛ فمن أقواله: لا تجالسوا أهل القدر، ولا تسبوا أصحاب محمد ﷺ، ولا تَعَلَّموا النجوم . وكتب ذات يوم إلى عمر بن عبد العزيز: إني شيخ كبير رقيق، كلَّفتني أن أقضي بين الناس، وكان على الخراج والقضاء بالجزيرة، فكتب إليه: إني لم أُكَلِّفك ما يُعنِّيك اجْب الطَّيِّبَ من الخراج، واقضِ بما استبان لك، فإذا لُبس عليك شيء، ارفعه إليّ، فإن الناس لو كان إذا كبُر عليهم أمرٌ تركوه لم يقم دين ولا دنيا .
ومن أقوال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه. وقال: ثلاثة تُؤدَّى إلى البرِّ والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم . قال رجل لميمون بن مهران: يا أبا أيوب، ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: أقبل على شأنك: ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم . وقال: من أساء سراً، فليتب سراً، ومن أساء علانية، فليتب علانية، فإن الناس يعيرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر .
وعن جعفر بن برقان قال: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره ، وعن أبي المليح قال: قال ميمون: إذا أتى رجل باب سلطان، فاحتجب عنه، فليأت بيوت الرحمن، فليصلِّ ركعتين، وليسأل حاجته .
وعن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهنَّ: لا تدخل على السلطان، وإن قلت: امره بطاعة الله، ولا تصغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة ولو قلت: أعلمها كتاب الله. وقال: ما نال رجل من جسيم الخير ـ نبي ولا غيره ـ إلا بالصبر . وتوفي ميمون رحمه الله سنة سبع عشرة ومئة ، وقيل: سنة ست عشرة .
2 ـ تعهدهم عمر بالنصح والتذكير بالمسؤولية:
يعتبر عمر بن عبد العزيز أكثر خليفة وجهت إليه النصائح والتوجيهات في عهد بني أمية؛ فقد شهد أكبر عدد من الرسائل بين الخليفة والعلماء، ولو استعرضنا أولئك العلماء الذين وجهوا النصح والتذكير لعمر وما كتبوه من رسائل لطال بنا الحديث، ولكن نذكر منهم على سبيل المثال: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن كعب القرظي، وأبا حازم سلمة بن دينار، والقاسم بن مخيمرة، والحسن البصري وغيرهم.
وكانت نصائح العلماء تتضمن عدداً من التوجيهات التي لها صلة بمنهج عمر السياسي، مما يؤكد أن عمر بن عبد العزيز استقى منهجه من المنهل الذي نبعت منه هذه التوجيهات، فمما جاء في موعظة محمد بن كعب القرظي: .. يا أمير المؤمنين ! افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم ، وبمثل هذا المعنى جاءت موعظة القاسم بن مخيمرة حيث قال لعمر: .. بلغنا أن من ولي على الناس فاحتجب عن فاقتهم وحاجتهم احتجب الله عن فاقته وحاجته يوم يلقاه. قال عمر: فما تقول ؟ ثم أطرق طويلاً وبرز للناس .
وجاء في إحدى رسائل الحسن البصري لعمر: ... أما بعد يا أمير المؤمنين ! فكن للمثل أخاً، وللكبير ابناً، وللصغير أباً، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتدخل النار، وقد كان عمر كما سلف يحرص على تطبيق مثل هذا التوجيه ويأمر عماله بذلك .
ومما جاء في رسالة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ المليئة بالتوجيهات: .. فإنه قد كان قبلك رجال عملوا وأحيوا ما أحيوا وأتوا ما أتوا حتى ولد في ذلك رجال ونشؤوا فيه وظنوا أنها السنة فسدوا على الناس أبواب الرخاء، فلم يسدوا منها باباً إلا فتح الله عليهم باب بلاء، فإن استطعت ـ ولا قوة إلا بالله ـ أن تفتح على الناس أبواب الرخاء فافعل، فإنك لن تفتح باباً إلا سد الله الكريم عنك باب بلاء، وما يمنعك من نزع عامل أن تقول: لا أحد يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتستعمل لله أتاح الله لك أعواناً فأتاك بهم. وجاء فيها أيضاً: .. فمن بعثت من عمالك إلى العراق فانهه نهياً شديداً بالعقوبة عن أخذ الأموال وسفك الدماء إلا بحقها. المال المال يا عمر والدم؛ فإنه لا نجاة لك من هول جهنم من عامل بلغك ظلمه ثم لم تغيره .
وهذه التوجيهات هي عين سياسة عمر في السعي لإغناء رعيته وانتقائه لعماله ومحاسبته لهم.
3 ـ مشاركتهم في تولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها:
لم تقتصر مشاركة العلماء لعمر بن عبد العزيز على الإشارة عليه وتقديم النصح له، بل تعدَّت ذلك إلى تولي عدد من المناصب في مختلف الأقاليم، وأهم هذه المناصب وأكثرها أثراً في سياسة الدولة: الإمارة على الأقاليم، وبيت المال ، وحين نتتبع ولاة عمر على الأقاليم نجد أن جلَّهم من العلماء؛ فمن ذلك: الإمام الثقة والأمير العادل عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على ولاية الكوفة، والعالم القدير أبو بكر بن عمر بن حزم على المدينة، والإمام الكبير إسماعيل بن أبي المهاجر على إفريقية، والفقيه المحدث عدي بن عدي الكندي على الجزيرة الفراتية وأرمينية وأذربيجان ، والإمام القاضي عبادة بن نسي على الأردن ، والثقة الصالح عروة بن عطية السعدي على اليمن، والقاضي الفاضل سالم بن وابصة العبدي على الرقة .
وأما بيت المال فقد تولى العمل فيه عدد من العلماء؛ ومنهم: العالم الجليل ميمون بن مهران على خراج الجزيرة ، والثقة الصالح صالح بن جبير الصدائي على الخراج لعمر بن عبد العزيز ، والعالم وهب بن منبه على بيت مال اليمن، وأبو زناد، وتولى عمر بن ميمون البريد لعمر بن عبد العزيز .
ولا شك أنه كان لهذه المشاركة الواسعة من العلماء بتوليهم الإمارة، وبيوت الأموال في مختلف الأقاليم الأثر الكبير في ضبط شؤون الدولة الإدارية والمالية، وما ترتب على ذلك من اثار حسنة في الحياة السياسية في عهد عمر بن عبد العزيز .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022