من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(أهم المدارس زمن خلافة عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية)
الحلقة: 168
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ مارس 2021
1.المدرسة البصرية:
وهي منافسة للكوفة في كل الفنون، وقد نزلها من الصحابة جمع كثير، منهم: أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وأنس بن مالك وغيرهم، ويعتبر أنس بن مالك رضي الله عنه شيخ السادة من علماء التابعين؛ أمثال: الحسن البصري، وسليمان التيمي، وثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإبراهيم بن أبي ميسرة، ومحمد بن سيرين، وقتادة وغيرهم . ومن أشهر علماء المدرسة البصرية:
أ ـ محمد بن سيرين البصري:
كان مولى أنس بن مالك، سمع من ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة وخلق سواهم، وعن حبيب بن الشهيد قال: كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاوس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله ، وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء من ابن سيرين .
وكان الحسن البصري يقدمه على غيره، فعن ثابت البُناني، قال: كان الحسن متوارياً من الحجّاج فماتت بنت له، فبادرت إليه رجاء أن يقول لي: صلّ عليها، فبكى حتى ارتفع نحيبه، ثم قال لي: اذهب إلى محمد بن سيرين، فقل له: ليُصل عليها، فعرف حين جاء الحقائق، أنه لا يعدل بابن سيرين أحداً .
وكان محمد بن سيرين يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان قد اشتهر بتفسير الأحلام، وهو أشهر من أن يعرف في هذا الباب، قال عنه الذهبي: قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب، وكان له في ذلك تأييد إلهي. وكان يلبس الثياب الثمينة والطيالس والعمائم ، وكان صاحب ضحك ومزاح .
وكان باراً بأمه، قالت حفصة بنت سيرين: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها ، وعن ابن عون: أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو راه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها .
وقال ابن عون: كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ؛ ذكره هو بأحسن ما يعلم. وجاءه ناس فقالوا:
إنا نلنا منك فاجعلنا في حلّ، قال: لا أُحلّ لكم شيئاً حرّمه الله .
توفي ابن سيرين بعد الحسن البصري بمئة يوم، سنة عشر ومئة .
ب ـ قتادة بن دعامة السدوسي:
كان من أوعية العلم، روى عن بعض الصحابة وكبار التابعين، وكان ثقة حجة في الحديث ، قال عنه أحمد بن حنبل: كان قتادة عالماً بالتفسير وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ، وقال: قلما تجد من يتقدمه . وقال: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه؛ قرئت عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها.
قال سلام بن مطيع: كان قتادة يختم القران في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث. قال عنه الذهبي: حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، كان رأساً في العربية والغريب وأيام العرب وأنسابها، وكان من تلاميذ الحسن البصري، وجالسه اثنتي عشرة سنة، وصلى معه الصبح ثلاث سنين ، توفي سنة ثماني عشرة ومئة.
2 ـ المدرسة الكوفية:
نزل الكوفة ثلاثمئة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، وقد اهتم عمر بالكوفة، ووجه إليها عبد الله بن مسعود، واجتهد ابن مسعود في إيجاد جيل يحمل دعوة الله فهماً وعلماً، وكان له الأثر البالغ في نفوس الملازمين له، أو من جاء بعدهم، وقد اشتهر مجموعة من تلاميذ ابن مسعود بالفقه والعلم والزهد والتقوى، منهم: علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، عبيدة السلماني، الأسود بن يزيد، ومرة الجعفي وغيرهم، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة الكوفية:
أ ـ عامر بن شرحبيل الشعبي:
كان علامة عصره ومن أفقههم، روى عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص،وعبد الله بن عمر وجمهرة غيرهم، حتى قيل: إنه أدرك خمسمئة من الصحابة ، لذلك كان صاحب اثار كثير العلم والفقه. قال محمد بن سيرين: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون بالكوفة، ورغم هذا العلم الواسع فقد كان ينقبض عند الفتوى، وكثيراً ما يقول: لا أدري، لأنه كان يعتبرها نصف العلم . وقد قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء، ولكنّا سمعنا الحديث فرويناه، ولكن الفقهاء من إذا علم عمل . ومن نكاته اللاذعة: ما رواه الأعمش قال: أتى رجل الشعبيَّ، فقال: ما اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته . توفي سنة أربع ومئة، وقيل: ست ومئة، وقيل: خمس ومئة .
ب ـ حمّاد بن أبي سلمة:
فقيه أهل العراق، روى عن أنس بن مالك، وتتلمذ على يدي إبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة . وكان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمُّل ، وكان أفقه أهل الكوفة عليّ وابن مسعود، وأفقه أصحابها علقمة، وكان أفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الافاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي رحمهم الله تعالى. وقد توفي حماد سنة عشرين ومئة.
3 ـ المدرسة اليمنية:
من أشهر علمائها من الصحابة الذين ساهموا في دخول الإسلام فيها: معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري وغيرهم، ومن أراد التوسع فليراجع الرسالة العلمية للدكتور عبد الله الحميري (الحديث والمحدثون في اليمن في عصر الصحابة). ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة اليمنية:
أ ـ طاوس بن كيسان:
فقيه أهل اليمن وقدوتهم، وأعلمهم بالحلال والحرام، من سادات التابعين، روى عن ثلة من الصحابة الكرام، كزيد بن ثابت وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وابن عباس، وهو معدود من كبراء أصحابه . وروى عن معاذ مرسلاً. كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له، كان فقيهاً جليلاً بركة لأهل اليمن . أدرك خمسين من أصحاب رسول الله ﷺ. قال له عمر بن عبد العزيز في عهد سليمان: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين. قال: ما لي إليه حاجة؛ فكأن عمر عجب من ذلك .
ومن أقواله: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج . وقال: البخل أن يبخل الرجل بما في يديه، والشح أن يحب أن يكون له ما في أيدي الناس. وقال عنه قيس بن سعد: الطاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم. وقال ابن المديني: كان سفيان لا يعدل من أصحاب ابن عباس بطاوس أحداً . وكان رحمه الله معتزلاً الأمراء والسلاطين إلا إذا أكره على عمل لهم، وإذا طلب منه أداء نصيحة فإنه لا يجامل أحداً ويصدع بالحق، توفي بمكة سنة ست ومئة للهجرة .
ب ـ وهب بن منبه:
أبو عبد الله وهب بن منبه من أبناء فارس كان ينزل ذمار . وكان ممن قرأ الكتب ولزم العبادة وواظب على العلم وتجرد للزهادة . وقال عنه الذهبي: الإمام العلامة، الأخباري القصصي. وقال العجلي: تابعي ثقة، كان على قضاء صنعاء، وذكره شيرازي في فقهاء التابعين باليمن .
وكان صاحب حكمة وفطنة، وكان له أثر في محاربة الخوارج في اليمن وتحذير الناس من ارائهم، وإليك حواره مع أبي شمَّر الخولاني لما دخل على وهب بن منبه برفقة داود بن قيس، وتكلم داود لوهب وقال عن صاحبه أبي شمّر الخولاني: إنه من أهل القران والصلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء ـ يعني الخوارج ـ فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك، لأنهم لا يضعونها في موضعها، فأدِّها إلينا، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي، فقال: يا ذا خولان ! أتريد أن تكون بعد الكبر حرورياً تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟! فماذا أنت قائل لله غداً حين يقفك الله ومن شهدت عليه ؟ فالله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر، والله يشهد له بالهدى وأنت تشهد عليه بالضلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله؟ أخبرني يا ذا خولان ! ماذا يقولون لك؟ فتكلم عن ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم، ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة، فأما قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني أن رسول الله ﷺ ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها ، أفإنسان مما يعبد الله يوحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع أو هرة؟ والله يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *} [الإنسان: 8]. قولهم: لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم أهم خير أم الملائكة ؟ والله يقول: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5] فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به: {لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ
وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧} [سورة الأنبياء:27] . وجاء مفسراً: {* وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7 ]
واستمر معه في الحوار والنقاش إلى أن قال ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده يؤتيه من يشاء، فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصِلْ به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف، فقال: أشهد أني نزلت عن رأي الحخرؤرورية .
توفي وهب رحمه الله سنة عشر ومئة في خلافة هشام بن عبد الملك، وقيل: إن يوسف بن عمر والي اليمن ضربه حتى قتله ، ولعل ذلك بسبب موقف وهب من جور يوسف بن عمر المشهور بعنفه وظلمه .
4 ـ المدرسة المصرية:
تكونت في مصر مدرسة كان شيوخها من الصحابة الذين رحلوا إليها أيام الفتح ونزلوا في موضع الفسطاط والإسكندرية، ومن هؤلاء: عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو بن العاص، الزبير بن العوام، وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في مصر عقبة بن عامر رضي الله عنه، وغير ذلك من الصحابة يرجع إليهم الفضل في دعوة الناس وتوجيههم نحو دينهم ، وجاءت طبقة التابعين، وكان منهم أئمة ودعاة، ومن هؤلاء:
ـ يزيد بن أبي حبيب:
الإمام الحجة، مفتي الديار المصرية، أبو رجاء الأزدي، كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى مع كونه مولى أسود . قال عنه الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا . توفي سنة ثمانٍ وعشرين ومئة .
5 ـ مدرسة شمال إفريقية:
دخل القادة الفاتحون شمال إفريقية وكان على رأسهم عمرو بن العاص، ثم عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهم، ثم تابع معاوية بن حديج فتح إفريقية، وولاه معاوية بن أبي سفيان على مصر وإفريقية، وجاء بعده عقبة بن نافع الفهري فاختط مدينة القيروان، وسار في الناس سيرة حسنة، وكان من خيار الولاة والدعاة الذين جاهدوا ودعوا بالسيف والكلمة، ثم قام على إفريقية ولاة صالحون ساروا على النهج نفسه .
وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز بعث إسماعيل بن أبي المهاجر والياً على إفريقية سنة مئة، فكان داعية إلى الإسلام بلسانه وأعماله وأخلاقه، فأحبه الناس، وأحبوا دينه، وحرص على دعوة البربر إلى الإسلام، فاستجابوا لدعوته، وأسلموا على يديه، واهتم إسماعيل بتعليم الناس أحكام الشريعة، وتفقيههم في الحلال والحرام، وكان عمر بن عبد العزيز بعث معه عشرة من التابعين من أهل العلم والفضل، وأهل إفريقية يومئذ من الجهل بحيث لا يعرفون أن الخمر حرام، حتى وصل هؤلاء فعلموا الناس الحلال والحرام.
وسيأتي الحديث عن الفقهاء العشرة في محله بإذن الله.
ومن خلال ما سبق من الحديث عن المدارس العلمية يظهر أهمية توريث العلم والخبرات الدعوية عند السلف، وامتداد ذلك يشمل أقاليم الدولة الإسلامية، ونستفيد أيضاً أهمية تفريغ مجموعة من أذكياء الأمة للتعلم والتعليم والإفتاء والإرشاد والوعظ ونشره بين الناس.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com