الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(من أسس توحيد الألوهية عند عمر بن عبد العزيز)
الحلقة: 161
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
 
 
توحيد الألوهية أساس دين الإسلام، بل هو أساس كل دين سماوي، به أرسل به جميع الرسل وأنزلت عليهم جميع الكتب، وهو الذي دعا إليه كل رسول من ادم عليه السلام إلى نبينا محمد ﷺ، بل هو الغاية من خلق الجن والإنسان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦*} [الذاريات: 56] . وكان سلف هذا الأمة رحمهم الله يهتمون بهذا النوع من التوحيد ، وممن كان له إسهام في هذه المسألة عمر بن عبد العزيز .
وقبل بيان ما أثر عنه فمن الأهمية بمكان بيان المقصود من توحيد الألوهية عند إطلاقه: فعرف بأنه: استحقاق الله سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له . وعرفه بعض الباحثين بأنه: توحيد الله بأفعال العباد، وهو المعبر عنه بتوحيد الطلب والقصد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومحبته وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرهبة والرغبة منه وإليه وحده، والتقرب إليه بسائر العبادات البدنية والمالية دون إشراك أحد أو شيء من خلقه ، وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز اثار في الدعاء والتبرك والخوف والرجاء والتوكل والشكر:
1 ـ الدعاء:
أ ـ مر عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصاة يلعب بها وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام إليه فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله الدعاء . وفي هذا الأثر بيَّن عمر بن عبد العزيز أن من شروط الدعاء الإخلاص وحضور القلب، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة؛ قال تعالى: { فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ١٤} [سورة غافر:14] ، وقال ﷺ: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» .
ب ـ قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصِك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر، فاغفر لي ما بينهما . فهنا توسل عمر بن عبد العزيز بالطاعة والتوحيد وطلب الغفران من الله تعالى، ولا شك أن التوسل بالأعمال الصالحة مشروع كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار ، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب الله دعاءهم ويفرج كربتهم، وقد توسل المؤمنون بأعمالهم الصالحة من الإيمان، وقدموه قبل الدعاء، قال تعالى: { رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَ‍َٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّ‍َٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ ١٩٣} [سورة آل عمران:193] ، فإنهم قدموا الإيمان قبل الدعاء وأمثال ذلك كثير .
جـ حصلت زلزلة بالشام، فكتب عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وقد كتب إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق .
قال الله عز وجل: {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ } [سورة الأعلى: 15-14] ، وقولوا كما قال ادم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٢٣} [سورة الأعراف:23] ، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: { تَغۡفِرۡ لِي وَتَرۡحَمۡنِيٓ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٤٧} [سورة هود:47] ، قولوا كما قال يونس عليه السلام: { لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٨٧} [سورة الأنبياء:87] ، فقد أمر رحمه الله الرعية بالالتجاء إلى الله تعالى والتصدق والاستغفار والخروج إلى المصلى عندما حصلت الزلزلة بالشام.
د ـ قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز فكثر بكاؤه ومسألته ربه الموت، فقلت: لم تسأل الموت، وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً، أحيا بك سنناً، وأمات بك بدعاً ؟! قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح حين أقر الله عينه وجمع له أمره قال: { ۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١} [سورة يوسف:101] ؟! وقد طلب الدعاء له بالموت على الإيمان ودعا به اقتداء بالصالحين، فهذا الدعاء من سنن المرسلين وهو من شعار الصالحين، وقد يكون أيضاً دعا به ـ رحمه الله ـ خوفاً من الفتنة في الدين، لاسيما عند وفاة أعوانه: ابنه عبد الملك، ومولاه مزاحم، وأخيه سهل، كما جاء في بعض الروايات .
2 ـ الشكر:
عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: ذكر النعم شكرها، وقال عمر بن عبد العزيز: شيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى، وكتب إلى بعض عماله فقال: .. أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما عندك من نعمته واتاك في كرامته، فإن نعمه يمدها شكره ويقطعها كفره. حث عمر بن عبد العزيز على شكر الخالق، فتبارك وتعالى على نعمه الكثيرة والائه الجسيمة، وهذا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {يوَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١٧٢} [سورة البقرة:172] ، وقال عز وجل: { فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ } [سورة البقرة:152]. والشكر يستلزم المزيد؛ قال تعالى:{وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧} [سورة إبراهيم:7] ، وما أثر عن عمر ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا الجانب يبين منهج السلف في التعامل مع النعم التي ينعمها الخالق على عباده .
3 ـ التوكل:
قال الحكم بن عمر: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمئة حرسيّ وثلاثمئة شرطي، فشهدته يقول لحرسه: إن لي عندكم بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله . ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظر مولاه مزاحم إلى القمر، فإذا القمر في الدبران ، قال: فكرهت أن أقول ذلك له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة، فنظر عمر فإذا هو بالدبران، فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران ! يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر، ولكننا نخرج بالله الواحد القهار . يظهر حرص عمر على التوكل مع الأخذ بالأسباب المشروعة، والتوكل هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب، وهو أصل من أصول التوحيد؛ قال تعالى: {فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ} [هود: 125] ، وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَيِّ ٱلَّذِي لَا يَمُوتُ} [سورة الفرقان:58] والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المكروه ، ويدفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب. وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها .
4 ـ في الخوف والرجاء:
عن يزيد بن عياض بن جعدبة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي كريمة: إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه من ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حساباً ولا أهون على الله إن عصاه مني؛ فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي، وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكاً، إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة، فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني .
وقال ربيع بن سبرة لعمر بن عبد العزيز وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى، قال: فنكس ساعة ثم قال لي: كيف قلت يا ربيع؟ فأعدتها عليه. فقال: لا، والذي قضى عليهم الموت؛ ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن من الذي أرجو من الله فيهم .
وعن قتادة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك: السلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف من وجعي، وقد علمتني أني مسؤول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً؛ يقول:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧} [سورة الأعراف:7] ، فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط عليَّ فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته، وأن يمن علي برضوانه والجنة .
ومن كلام عمر يتبين لنا جمعه بين الخوف والرجاء ولا شك أن الجمع بين الخوف والرجاء هو من عقيدة السلف الصالح، وهو توسط المؤمن بين الأمن من مكر الله واليأس من روح الله، فالسلف كانوا يخافون ربهم، ويرجون رحمته ، وهم سائرون على ما قال تعالى:
{أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا ٥٧} [سورة الإسراء:57] . وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله:{أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦ} [سورة الزمر:9]
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022