من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(الفتوحات في بلاد الروم في عهد عبد الملك والوليد وسليمان)
الحلقة: 127
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
في أواخر عام 73 هـ شعر عبد الملك أن الدولة استعادت قوتها، وأنها تستطيع أن تستأنف جهادها وتعلي إرادتها، وكانت العلاقات قد ساءت بين دولة الروم والدولة الإسلامية في هذه الفترة، وأخذ الروم يتأهبون للانتقاض، فكان عبد الملك لهم بالمرصاد وقد أحكم إعداده، فعين أخاه محمد بن مروان والياً على الجزيرة وأرمينية ليكون القائد في هذه الجبهة، ومنع عبد الملك إرسال النقود التي كان يدفعها وقت الضرورة، فأثارت هذه حنق الإمبراطور الروماني البيزنطي، فأعلن الحرب، وقدم بجيش كبير ليغزو المسلمين من ناحية أرمينية، فلاقاه محمد بن مروان بجيشه ودارت موقعة عنيفة هزم فيها الروم على كثرة عددهم هزيمة شنيعة، وفرَّ الإمبراطور بنفسه وانفض عنه أكثر جنوده، وكان ذلك عام 74 هـ، فزعزعت هذه الوقعة الدولة البيزنطية .
واستغل عبد الملك هذا النصر وواصل ضغطه على الدولة البيزنطية عبر الحدود، وانتظمت غزوات الصوائف والشواتي، وشرع في التوغل داخل الأراضي البيزنطية القريبة، فكانت الصوائف تخرج بانتظام للإغارة على هذه الأراضي يقودها محمد بن مروان أو غيره من أمراء بني أمية.
وفي عام 81 هـ بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك ففتح «قاليقالا»؛ وهي إحدى مدن الروم الكبيرة، وفي عام 84 هـ تمكن عبد الله بن عبد الملك من فتح مدينة أخرى رئيسة داخل دولة الروم في اسية الصغرى، وهي مدينة (المصيصة) فبنى حصنها، ووضع بها حامية من ثلاثمئة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون يسكنوها من قبل، وبنى مسجدها.
وهكذا اندفعت قوة المسلمين إلى الإمام، تفتح المعاقل وتستولي على الحصون داخل أرض العدو في دولة الروم، منذ تحققت الوحدة في عهد عبد الملك .
ولقد أثبت عبد الملك بعد إعادة الوحدة السياسية أن الدولة وأن قوّتها الموحدة قادرة على التفوّق وإحراز السيادة، وتحقيق النصر على البيزنطيين، وأن قوتها الموحدة قادرة على الاندفاع في الجبهات كافة ، واستمرت الجيوش الإسلامية في جهادها طوال مدة الوليد ثم سليمان، وقد برز مسلمة بن عبد الملك في تلك الحروب كقائد فذ، ومقاتل عظيم، فكان في كل سنة يفتح بلداً أو حصناً من الحصون العظيمة التي أقامها الروم لتأمين سلامة بلادهم والمحافظة عليها من غارات الأعداء، وكان يغزو معه هذه الغزوات ـ في عهد الوليد ـ وفتح هذه الفتوح العباس بن الوليد بن عبد الملك، ومن الحصون التي فتحها: حصن عمورية وهرقلية وقمونية، وحصن طوانة وسمطية والمرزبانين وطروس، وكثير غير هذه الحصون .
ففي جمادى الآخرة سنة (88 هـ 707 م) فتح مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد حصن طوانة وشتوا بها، وهزم المسلمون الأعداء حتى صاروا إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس، وبقي العباس ومعه نُفير، منهم ابن محيريز الجُمحي، فقال العباس لابن محيرز: أين أهل القران الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادِهِمْ يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القران، فأقبلوا جميعاً فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة . وهكذا لا تمر سنة وإلا ويغزو المسلمون أرض الروم ويستولون على بعض حصونهم ومعاقلهم.
ومن الجدير بالذكر: أن معظم الذين كانوا يقودون هذه الحملات هم من أبناء البيت الأموي، أولاد الخليفـة الوليد نفسـه وأخوه مسلمـة الذي لم يكـد يتخلف سنة واحـدة عن غزو أرض الروم، وهذا أمر له مغزاه؛ فقد كان مسلمة هو الذي قاد الجيش الذي حاصر القسطنطينيـة الحصار الأخير فـي عهـد سليمان ـ كما سنذكـر قريبـاً بإذن الله ـ ومعنى هذا أن اشتراكه المستمر في غزو بـلاد الروم كان مقصوداً ليزداد معرفة وخبرة بالطرق والمسالك إلى عاصمة البيزنطيين، التي كانت إحدى الأهداف الرئيسة من هذه الغزوات .
أولاً: البيزنطيون يرصدون تحركات المسلمين العسكرية:
من الطبيعي أن تكون عيون البيزنطيين دائماً مفتوحة على حدودهم مع المسلمين، فجبهة الحدود دائماً ملتهبة، والغزو الإسلامي لا يكاد يتوقف، ولكي يتأكد البيزنطيون من نوايا المسلمين وأهدافهم من وراء هذا النشاط العسكري المستمر، أرسل الإمبراطور البيزنطي أنسطاس (713 ـ 716 م) سفارة إلى دمشق لتستطلع الأخبار عن كثب، وتعرض على الخليفة الوليد مشروع عقد هدنة بين الدولتين، ولما وصلت السفارة البيزنطية إلى دمشق، شاهدت عظمة المسلمين في عاصمتهم، ونشاط الخليفة في إعداد الجيوش لتوجيهها إلى القسطنطينية، وعاد السفير إلى الإمبراطور يؤكد صدق عزيمة المسلمين على الجهاد، وينصح بضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة للدفاع عن العاصمة، فأخذ أنسطاس برأي سفيره، وأعلن في القسطنطينية أخبار الحملة الإسلامية المنتظرة، وأمر كل فرد أن يخزن لنفسه مؤونة تكفيه ثلاث سنوات، وأن يخرج من المدينة كل معوز وغير قادر على تدبير مؤونته، ثم ملأ الخزائن الإمبراطورية بكميات كبيرة من القمح وغيره من الحاجيات التي يتطلبها المدافعون عن المدينة، واهتمَّ كذلك بتجديد أسوار المدينة لاسيما الجهات المطلة منها على المياه، حيث كان التداعي قد دبَّ فيها، ووضع على الأسوار البرية كل الالات الحربية من المجانيق وغيرها من وسائل الدفاع ، وبينما يمضي الخليفة الوليد في استعداداته للزحف على عاصمة البيزنطيين إذ وافته منيته سنة 96 هـ، فخلفه أخوه سليمان ليواصل جهوده في هذا الميدان .
ثانياً: سليمان بن عبد الملك وحصاره للقسطنطينية:
يبدو أن اهتمام الخلفاء بفتح القسطنطينية، إنما يرجع لرغبتهم الشديدة في أن يكونوا المقصدوين بقوله عليه الصلاة والسلام: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»، ويضاف إلى ذلك رغبة سليمان الشديدة، في وضع حد للهجمات البيزنطية المتكررة على الشواطئ الشامية والمصرية، والتي من شأنها بث حالة من عدم الاستقرار في تلك النواحي، وبالتالي المساس بسيادة الدولة الإسلامية، فقد هاجم البيزنطيون ساحل جند حمص، وسبوا (امرأة وجماعة)، وللمرأة فيهم ذكر إذ ذاك، فغضب سليمان وقال: ما هو إلا هذا نغزوهم ويغزوننا، والله لأغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية، أو أموت دون ذلك .
1 ـ الاستعداد للحملة:
شملت الاستعدادات للحملة معظم العالم الإسلامي، فقد ضمَّتْ الحملة البرية نحو مئةٍ وعشرين ألفاً من الشام والجزيرة والموصل، وضمت الحملة البحرية ألف مركب من أهل مصر وإفريقية ، ويبدو أن تقدير المسلمين لحصانة القسطنطينية، وطول أمد الحرب، تقدير سليم وقوي، حيث إنهم أدركوا أن حصارها يتطلب قوات كبيرة ووقتاً طويلاً وأسلحة متنوعة، لذلك جمعوا: الات الحرب للصيف والشتاء، والمجانيق، والنفط وغير ذلك .
2 ـ سير الحملة:
تجاذبت قادة المسلمين العسكريين خطتين حول سير الحملة:
الأولى: طرحها موسى بن نصير، وفحواها: أن على المسلمين احتلال المدن والحصون التي دون القسطنطينية، لتجريدها من المواقع الحصينة المحدقة بمسالكها والتي قد تعيق حركة الجيش الإسلامي، ويستمر الأمر بهذه الخطة حتى تفتح القسطنطينية.
وأما الخطة الثانية: فطرحها مسلمة بن عبد الملك، والذي ارتأى أن اتباع خطة موسى، يحتاج إلى أمد بعيد جداً حتى يتحقق حصار القسطنطينية، وفتحها، لذلك أشار بضرورة التوجه مباشرة إلى القسطنطينية دون التعرض للمدن والحصون المحدقة بجانبي الطريق إلا ما كان ضرورياً.
ويبدو أن رأي مسلمة لقي قبولاً لدى الخليفة ومستشاريه العسكريين، لذلك تقرر سير الحملة حسب خطته ، وسار سليمان من القدس إلى دمشق، ومضى حتى نزل دابق ، وأقسم ألا ينتقل منها حتى يفتح القسطنطينية، فأقام بها ، وفي سنة 98 هـ تحركت الحملة بقيادة مسلمة بن عبد الملك من سورية براً وبحراً باتجاه القسطنطينية، واستمر مسلمة في سيره، ووصلت الحملة البرية القسطنطينية عام 98 هـ، ووصلها الأسطول في عام 99 هـ، وضرب المسلمون الحصار على المدينة، وقاتلوا الروم قتالاً شديداً واستبسلوا في جهادهم، ورغم المصابرة التي استمرت قرابة سنة، فإن المحاولة فشلت وخسر المسلمون خسارة كبيرة في العدد والعدة .
وقد وصفت المصادر الإسلامية الحالة السيئة التي آل إليها الجيش الإسلامي في الفترة الأخيرة من الحصار، فالفسوي يقول: وقد كان الناس لقوا جهداً من القسطنطينية من الجوع ، ويقول الطبري: فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكل الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب .
كما إن البيزنطيين داخل القسطنطينية كانوا في حالة سيئة أيضاً، ولعل من الشواهد التاريخية على ذلك ما يأتي:
أ ـ إن مخاطرة السفن البيزنطية في الخروج لجلب القمح من شواطأى البحر الأسود وخروج المراكب الصغيرة لجلب الطعام، وصيد الأسماك، دليل قوي على الضنك الاقتصادي عند أهل القسطنطينية بالرغم من انكسار حدة القتال.
ب ـ سعي البيزنطيين إلى عقد صلح مع مسلمة، حيث عرض بطريقُهم دفع دينار عن كل رجل محتلم في القسطنطينية؛ دليل اخر على سوء الأوضاع الداخلية.
جـ الصلح الذي تم إبرامه بين المسلمين والبيزنطيين، قبيل انسحاب الجيش الإسلامي، وتعهد البيزنطيون بموجبه بالمحافظة على المسجد الذي بناه مسلمة .
3 ـ انسحاب الجيش الإسلامي:
لما مات سليمان بن عبد الملك تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة، فوجه إلى مسلمة وهو محاصر للقسطنطينية، وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، وكان عدد الخيل التي وجهها لمسلمة خمسمئة فرس ، لأنه كان قد أصاب المسلمين مجاعة فقواهم بذلك، وكان قرار عمر بن عبد العزيز بانسحاب مسلمة حصيفاً صائباً، لا لأنَّ عمر غير ميّـالٍ إلى حروب الفتح والاستيلاء ، بل لأنّ موقف المسلمين المحاصرين للقسطنطينية كان ميئوساً منه، فأمر بانسحابهم حقناً لدمائهم، بعد أن بلغ بهم الجهد ، إذ لم يغفل عمر أبداً عن غزو الروم دفاعاً عن حدود أرض الشام الشمالية الغربية .
لقد أحسن عمر بن عبد العزيز في قراره بانسحاب المسلمين عن القسطنطينية، لأن الموقف العسكري كان يتطلب إصدار مثل هذا القرار، ولو كانت كفة المسلمين راجحة في حينه لكان من المستحيل عليه الأمر بانسحاب المسلمين، ولكن ليس هناك مسوِّغ للادعاء بأن عمر بن عبد العزيز غير ميال لحروب الفتح دون تمحيص للموقف العسكري الراهن .
4 ـ أسباب فشل الحملة:
أ ـ غدر وخيانة:
تناولت الأخبار غزوة القسطنطينية، وذكرت أن ليو حاكم ـ بطريق ـ عمورية اتصل بسليمان بن عبد الملك وحرّضه على حرب تيودوسيوس ـ تيدوس ـ، ووعد ليون سليمان أن يقف إلى جانب المسلمين ويسلِّمهم أرض الروم، وقيل: الذي عرض التحالف على الاخر هو سليمان بن عبد الملك، وقيل: مسلمة بن عبد الملك عرض ذلك أثناء حصار القسطنطينية، وهو يتظاهر أمام مسلمة أنه يحاول إقناعهم في النزول على رغبة مسلمة، وكان مسلمة حسب هذه الأخبار طلب إليهم ليرحل عنهم أن يملِّكوا حليفه ليو عليهم، وأما ليو فكان في حقيقة الحال يطلب الملك لنفسه، ويريد أن ينقذ البلد من خطر المسلمين، ولما اطمأن الأساقفة والبطارقة إليه وحلف لهم؛ انقادوا له واستوى له الأمر، فخرج إلى مسلمة وأشار عليه أن يحرق ما عنده من الطعام لييئسوا من المطاولة، ويصح عندهم عزم مسلمة على المناجزة فيعطوا ما بأيديهم، وقيل: أشار عليه أيضاً أن يأذن لأهل القسطنطينية لليلة واحدة أن يحملوا مما عنده من الغلال ليروا حسن رأيه فيهم، وأن أمره وأمر ليو واحد، وانطلت الخديعة على مسلمة وأطاع ليو. وأما ليو فقد استولى على الحكم وأعلن الحرب على مسلمة في الوقت الذي صار مسلمة في حال لا يحسد عليه من سوء الأحوال الجوية وقلة الميرة لجنده، حتى لقوا من الشدة ما لم يلقَ أحد قط، واضطروا إلى أكل الدواب والجلود والميتة وأصول الشجر وغير ذلك .
وخلاصة القول: إن هذه الأخبار تلقي مسؤولية الفشل على عاتق مسلمة بن عبد الملك الذي كان عندها شجاعاً فحسب ولم يكن من ذوي الرأي والبصيرة في الحرب، ولم يكن له رأي فيها يرجع إليه ، ولو صدقنا هذه الأخبار لكانت الدولة؛ أي: سليمان بن عبد الملك ابتداء، ومسلمة بن عبد الملك قائد الجيوش تالياً ربطا مصير فتح القسطنطينية ومصير الجند المسلمين هناك بوعود شخص هو ليو مظنة كذب وخديعة، وهو حال يتناقض واستعدادات الدولة في هذا الوجه ، وقد علق الأستاذ محمود شيت خطاب على حصار القسطنطينية فقال: وإذا كان هناك ما يلام عليه مسلمة في معركة حصار القسطنطينية فهو عدم استفادته كما ينبغي من الصفة الأولى من صفات حصار القسطنطينية؛ وهي صفة (المبادرة) في التركيز بالهجوم على المدينة المحاصرة، وإدامة زخم الهجوم عليها أولاً، وثقته غير المحدودة بحليفه (ليو)؛ لأن الذي يخون بلاده وقومه أولى به أن يخون غير بلاده وغير قومه، فكانت هذه الثقة العمياء في هذا العميل لا مسوِّغ لها ثانياً، فالحرب من القضايا المصيرية، ولابدّ من إدخال أسوأ الاحتمالات في كلِّ ما يؤثر في نتائجها من قريب أو بعيد .
ب ـ ضراوة الشتاء:
بخصوص ضراوة الشتاء عام 99 هـ قيل: إن الثلج غطى وجه الأرض، وهلك فيه كثير مما كان مع المسلمين من الجمال والخيل والبغال، ولابدّ أن المسلمين في هذه الأحوال الجوية القاسية أتوا على أكثر ما كان معهم من الطعام، وأصبحوا في نقص من الميرة، وعضّهم الجوع، ولذلك قيل: استطاع ليو أن يفخر بأن ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) كانوا أعظم قواده .
جـ مناعة أسوار المدينة وتحصيناتها الدفاعية:
أخذ حكام بيزنطة في تحصين أسوار القسطنطينية وتسليحها بالمجانيق، منذ علموا بعزم المسلمين على غزوها، وزادها ليو الذي تقلَّد الحكم فيها زمن الحصار تحصناً، وأمر حكام بيزنطة بتخزين الطعام بالقدر الذي يكفي أهلها لثلاث سنوات، ومنعوهم من أن يغادروها .
د ـ استخدام سلاح جديد ضد المسلمين (النار الإغريقية):
استخدم البيزنطيون النار اليونانية، فأثرت في جيش المسلمين وكبّدتهم خسائر في الأرواح والسفن والمعدات، وتاريخ الحرب في جميع العصور يقرر أن من أهم أسباب عوامل النصر هو استخدام سلاح فتاك جديد لا يتوقعه الخصم، أو استخدام أسلوب قتالي جديد لا يتوقعه الخصم، أو استعمالهما معاً في الزمن والمكان المناسبين بشكل لا يتوقعه الخصم، وكل ذلك يباغت هذا الخصم ويربك قيادته وخطته المرسومة، والمباغتة كما هو معروف هي أهم مبادأى الحرب علىالإطلاق، ومن الإنصاف أن نضيف إلى عوامل انتصار الروم في الدفاع عن القسطنطينية عاملاً اخر هو: كفاية (ليو الثالث) المتميزة في القيادة، وتشبعه بمزية إرادة القتال .
هـ التيارات المائية:
واجه المسلمون في البحر صعوبات كثيرة؛ فقد جعلت التيارات المائية المنحدرة من البحر الأسود إلى بحر مرمرة حركة السفن الإسلامية بطيئة، وأدى تغير الريح إلى اضطرابها، ونالت النار الإغريقية منها وألحقت بها أضراراً كثيرة .
و ـ المصالحة بين البيزنطيين والبلغار والخزر:
صالح ليو الحاكم البيزنطي أعداءه الخارجين عليه من الخزر والبلغار، وبذلك ضمن الجبهة الشمالية، مما جعله يصب جل اهتمامه على القوات الإسلامية لغرض تدميرها وإيقاف زحفها على المدينة .
ز ـ الاستعجال وعدم التريث:
ويبدو أن المسلمين لو تريثوا حتى أتموا فتح البر الاسيوي البيزنطي، ثم تقدموا إلى القسطنطينية من مواقع مجاورة وبأحوال جوية مماثلة ومألوفة للمقاتلة وخطوط ومواصلات قصيرة وإمدادات قريبة وأعداد بشرية كثيرة؛ فربما وجدوا المهمة أيسر، ولكنهم عمدوا إلى صقع من البلاد في محيط من الأعداء حصين وبعيد فاستعصى عليهم .
ح ـ ضعف خبرة مسلمة العسكرية:
كان مسلمة بن عبد الملك القائد الأموي في حصار القسطنطينية صغيراً في السن، وأقل تجربة من عظماء الفتح الإسلامي في ذلك العهد، مما أثر في فشل الحصار.
5 ـ نتائج الحملة:
ترتب على حملة القسطنطينية العديد من النتائج، ولعل من أبرزها ما يلي:
أ ـ تأكد للمسلمين أنهم لا يستطيعون فتح القسطنطينية دون فتح المناطق المجاورة لها، وتثبيت أقدامهم فيها حتى تكون عوناً لهم لا عليهم في حالة حصار القسطنطينية، وبالرغم من ذلك فقد كانت للمسلمين سيطرة واضحة على العديد من موانئ البحر الأبيض المتوسط، خاصة في حوضه الغربي.
ب ـ تخلي أباطرة البيزنطيين عن فكرة استعادة شمال إفريقية، وعدوا الدفاع عن هذه المنطقة في المرتبة الثانية، بعد الدفاع عن عاصمتهم، وبالتالي أصبحت منطقة شمال إفريقية ركناً هاماً من أركان الدولة الإسلامية قوية الأوتاد.
جـ ولعل من أهم النتائج المباشرة لغزو القسطنطينية: ازدياد نشاط الأسطول البيزنطي في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط؛ فقد هاجمه البيزنطيون بالإغارة على تِنِّيْس في خلافة يزيد بن عبد الملك .
6 ـ من خطب عبد الملك في التحريض على قتال الروم:
وفي عهد عبد الملك عندما علم بتحرك الروم بأرض القسطنطينية وغيرها من بلاد الروم على غزو المسلمين ومفاجأتهم؛ نادى بالنفير العام، وحين اجتمع لديه جند المسلمين قام فيهم محرضاً فقال لهم بعد أن حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس إنكم قد علمتم ما ذكر الله عز وجل في كتابه من فضل الجهاد، وما وعد الله عليه من الثواب، ألا وإني قد عزمت أن أغزو بكم غزوة شريفة على أليون صاحب الروم؛ فإنه طغى وبغى، وقد بلغني أنه قد جمع للمسلمين جموعاً كثيرة، وعزم على غزوكم ومفاجأتكم في دياركم، وقد علمت أن الله تعالى مهلكه ومبدد شمله وجاعل دائرة السوء عليه وعلى أصحابه، وقد جمعتكم من كل بلد وأنتم أهل البأس والنجدة، والشجاعة والشدة وأنتم من قام لله بحقه ولدينه بنصرته وهذا ابني مسلمة وقد أمَّرْته عليكم، فاستمعوا له وأطيعوا يوفقكم الله ويرشدكم لصالح الأمور. فقال الناس جميعاً: سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين .
وعندما سيَّر عبد الملك بن مروان ابنه مسلمة لمحاربة الروم أوصاه بالعسكر بقوله: فكن يا بنـيَّ بالمسلمين بـاراً رحيمـاً وأميراً حليمـاً، ولا تكن عنيـداً كفـوراً ولا مختـالاً فخوراً، كما أوصى عبد الملك قائداً اخر سيره إلى أرض الروم: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تاجر، وإلا احتفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك.
7 ـ من أشهر قادة المسلمين ضد الروم: مسلمة بن عبد الملك:
مسلمة بن عبد الملك الأمير الضرغام، قائد الجيوش، أبو سعيد الأموي الدمشقي، ويلقب بالجرادة الصفراء ، له مواقف مشهودة مع الروم، وهو الذي غزا القسطنطينية وكان ميمون النقيبة، وقد ولي العراق لأخيه يزيد ثم أرمينية ، قال عنه الذهبي: كان أولى بالخلافة من سائر إخوته ، وقد ظهرت مزايا مسلمة وألمعيته مبكراً وهو صغير السن، فركز أبوه عبد الملك عليه، وبخاصة في وصيته أبناءه وبنيه وهو على فراش الموت، فقال فيه: .. وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومِجنُّكم الذي عنه ترمون .
فهو قائد من قواد الفكر، وقائد من قادة الجهاد بالنسبة لبني أمية، لا يخالفون له رأياً، ولا يعصون له أمراً، ويلجؤون إليه في أيام المحن والحروب ، ومسلمة هذا عُرف في التاريخ مع قصة صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصناً، فندب الناس إلى نَقْب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من عُرض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاء أحد. فنادى: إني قد أمرت بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسودوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟ قال مسلمة: فذاك له، قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النَّقب .
وكان مسلمة في جهاده يحرص على سلامة جنده، وفي قتاله للخزر تكالب عليه الأعداء مما اضطره إلى خداعهم بإشعال النيران ليوهمهم بمكوثه، وجعل خيامه مضروبة بعد العشاء الآخرة، وجعل مسلمة يطوي المراحل طياً في العودة، فقد جعل كل مرحلتين في مرحلة، غير أنه قدَّم الضعفاء بين يديه واهتم بهم، وجعل الأقوياء أهل الجلد والشجاعة على الساقة، فلم يزل كذلك حتى جاوز الخطر .
وكان يمقت العجز ويمدح الحزم، فقد قال: ما حمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز، ولا ذممتها على مكروه ابتدأته بحزم ، ومن أقواله في الزهد: إن أقل الناس هماً في الدنيا أقلهم هماً في الآخرة .
وكانت تجربته العملية غنية إلى أبعد الحدود، فقد شهد كيف تدار الدولة على أعلى المستويات مع أبيه عبد الملك بن مروان ومع إخوته من بعده، وكان الخلفاء من إخوته يحرصون على أن يبقى إلى جانبهم مستشاراً يتعلمون منه أكثر مما يتعلم منهم، إلا إذا حزبهم أمر يهدد أمن الدولة ومصيرها تهديداً خطيراً، فيبعثونه، ليقضي على الثورات، وليقمع الاضطرابات، وليعيد الأمن والاستقرار .
وكان مسلمة مخلصاً غاية الإخلاص لبني أمية، ويدين بالولاء المطلق للخلفاء، ولم يكن يطمح لتولي الخلافة؛ لأن بني أمية لم يكونوا يبايعون لبني أمهات الأولاد، ولم يكن لعبد الملك بن مروان ابن أسدَّ رأياً ولا أذكى عقلاً، وأشجع قلباً، وأسمح نفساً ولا أسخى كفّاً من مسلمة، وإنما تركوه لهذا المعنى . وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا: لا تصلح لهم العرب . ولم يكن لمسلمة أمل في تولي الخلافة مع أنه كما قال الذهبي ـ: كان أحق بالملك من سائر إخوته. وكان ذا عقل راجح ورأي سديد يحولان بينه وبين مغامرة تشق صفوف المسلمين، وكان بحق من أكثر الناس حرصاً على رصِّ الصفوف والوحدة، كما أنه كان يعتبر الخلافة (وسيلة) من أجل خدمة الأمة لا (غاية) من أجل أطماع شخصية، وأمجاد أنانية، وهو بحق خدم الأمة أجل الخدمات، وبذلك حقق (الوسيلة) واستغنى عن (الغاية) ، وكان رحمه الله جميل الصورة، حسن الوجه، صبيحاً، من أجمل الناس، وهو معدود من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشام، توفي سنة 120 هـ.
8 ـ أبو محمـد البطـال:
كان من أبطال المسلمين وأمرائهم الشاميين، وكان مع جيش مسلمة بن عبد الملك، وكان مقره بإنطاكية، أوطأ الروم خوفاً وذلاً. ولكن كُذب عليه أشياء مستحيلة في سيرته الموضوعة، وعن عبد الملك بن مروان: أنه أوصى مسلمة أن صيِّر على طلائعك البطال ومره فليعسَّ بالليل، فإنه أمير شجاع مقدام، وعقد مسلمة للبطال على عشرة الاف وجعلهم طلائع للجيش.
ومن نوادر ما يُحكى عن البطال أنه قال: اتفق لي أنّا أتينا قرية لنغير، فإذا بيت فيه سراج وطفل صغير يبكي، فقالت أمه: اسكت، أو لأدفعنك إلى البطال، فبكى، وقالت: خذه يا بطال، فقلت: هاتيه. وجرت له أعاجيب، وفي الاخر أصبح في معركة مثخوناً وبه رمق، فجاء الملك ليون، فقال: أبا يحيى، كيف رأيت؟ قال: وما رأيت؟ كذلك الأبطال تقتل ولا تُقتل، فقال: عليَّ بالأطباء، فأتوا فوجدوا جراحه قد أنفذت مقاتله، فقال: هل لك حاجة؟ قال: تأمر من يثبت معي بولايتي، وكفني، والصلاة عليَّ ثم تطلقهم، ففعل، قتل 112 هـ، وقيل: 113ه . قال عنه ابن العماد: .. وله حروب ومواقف، ولكن كذبوا عليه، فأفرطوا، ووضعوا له سيرة كبيرة، تقرأ كل وقت، يزيد فيها من لا يستحيي من الكذب .
9 ـ عامر الشعبي سفير عبد الملك لعظيم الروم:
وجه عبد الملك بن مروان الشعبي إلى ملك الروم ـ يعني رسولاً ـ فلما انصرف من عنده قال: يا شعبي، أتدري ما كتب به إليّ ملك الروم؟ قال: وما كتب به يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتعجب لأهل ديانتك، كيف لم يستخلفوا عليهم رسولك. قلت: يا أمير المؤمنين لأنه راني ولم يرك. وفي رواية: يا شعبي، إنما أراد أن يغريني بقتلك. وبلغ ذلك ملك الروم، فقال: لله أبوه، والله ما أردت إلا ذاك . وفي هذا ما يدل على أن الروم لم تكن نياتهم سليمة مع المسلمين حتى في زمن السلم والمراسلات وعقود الصلح، وأنهم يستخدمون الكيد والمكر لشق الصفوف، والتخلص من الأفذاذ.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: