من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج1):
ثورة عبد الرحمن بن الأشعث
الحلقة: 109
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
هذه واحدة من الثورات العديدة التي قام بها أهل العراق ضد الدولة الأموية، ولم يكن نشوبها على أساس مذهبي كما هو الحال بالنسبة لثورات الخوارج والشيعة، بل دفع إليها الكراهية المتبادلة بين قائدها وبين والي العراق الحجّاج بن يوسف، وقائد هذه الثورة هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي .
وقد بدأت هذه الثورة العارمة من إقليم سجستان، ذلك الإقليم الذي أتعب الأمويين وكان كثير الانتقاض والتمرد عليهم ، فلما كانت ولاية الحجّاج بن يوسف على العراق (75 ـ 95 هـ) صبر على مضض على تجاوزات رتبيل ملك سجستان ضد الدولة واستغلاله الظروف الصعبة التي كانت تمر بها، ومنعه الجزية، فلما انتهت مشاكل العراق الخطيرة، وكسرت شوكة الخوارج سنة 78 هـ، قرر أن يؤدِّب رتبيل ، فأرسل الحجّاج إليه جيشاً بقيادة عبيد الله بن أبي بكرة سنة 79 هـ، وأمره الحجّاج أن يتوغل في بلاد رتبيل، وأن يدك حصونهم وقلاعهم، ففعل ما أمر به الحجّاج، وتمكن من هزيمة رتبيل واجتياح بلاده، وغنم غنائم كثيرة، ولكن رتبيل أخذ في التقهقر فأطمع المسلمين في اللحاق به حتى وصلوا قريباً من مدينته العظمى، عند ذاك بدأ الترك يغلقون على المسلمين الطرق والشعاب وحصروهم وقتل عامة جيش المسلمين .
أولاً: إعداد وإرسال جيش الطواويس إلى سجستان بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث:
أراد الحجّاج تأديب رتبيل وعقابه، فاستأذن عبد الملك بن مروان في أن يبعث جيشاً
كبيراً بلغ عدده أربعين ألف مقات من أهل الكوفة وأهل البصرة، وأنفق عليه ألفي ألف (مليونين)، سوى أعطيات المقاتلين، وبالغ في تجهيزه بالخيول الروائع والسلاح الكامل ، وبلغ من فخامة الجيش أن سماه الناس جيش الطواويس ، وأسند قيادته إلى عبد الرحمن بن الأشعث، والحجّاج بإسناده قيادة هذا الجيش الكبير عدة وعدداً لابن الأشعث وهو يعلم موقفه منه، يهيأى للثورة عليه وعلى الدولة الأموية، وقد نبه الحجّاج إلى هذا الخطأ الفادح، حيث قال له عم ابن الأشعث إسماعيل بن الأشعث: لا تبعثه، فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوالٍ من الولاة عليه طاعة وسلطان ، ولكن يبدو أن الحجّاج قد خانه ذكاؤه هذه المرة، أو كان مفرطاً في ثقته بنفسه، فلم يسمع نصيحة إسماعيل، وردَّ مستخفاً بعبد الرحمن، فقال: هو لي أهيب وفيَّ أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج عن طاعتي .
ومضى عبد الرحمن بهذا الجيش العظيم إلى سجستان لتأديب رتبيل، وكان ذلك في سنة 80 هـ، فلما بلغته الأخبار، كتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه مما حلَّ بالمسلمين في بلاده، ويطلب منه الصلح، ولكن عبد الرحمن لم يقبل ، وأخذ يتوغل في بلاده، وهنا حاول رتبيل أن يكرر مع عبد الرحمن ما صنعه مع عبيد الله بن أبي بكرة، فأخذ يخلي البلاد والحصون أمامه ليوقعه في شرك، ولكن ابن الأشعث فطن إلى ذلك، وكان كما يقول الطبري: كلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وبعث معه أعواناً، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الدخول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما أصبناه العام في بلادهم، حتى نجبيها ونعرفها ويجترأى المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم اخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله .
وهذه خطة سديدة وعملية تدل على ذكاء وحنكة وتجربة، وقد كتب إلى الحجّاج بما حققه من فتوحات وبخطته التي اعتزم تنفيذها ، ولكن الحجّاج ـ ودون أن يستشير أحداً من أهل الحرب ـ رفض هذا الرأي واستهجنه، وكتب إلى ابن الأشعث ثلاثة كتب على التوالي سفه فيها رأي ابن الأشعث وهدده فيها بالعزل إن لم يفعل ما يأمره به، ورماه فيها ببعض الأوصاف المقذعة .
ثانياً: تمرد عبد الرحمن بن الأشعث بجيشه على الحجّاج:
وبرفض الحجّاج رأي ابن الأشعث، وبأسلوبه القاسي، وتعامله السيِّأى، أذكى نار الفتنة، وعجل بأسباب الثورة عليه، وقد أعماه فرط ثقته بنفسه واحتقاره لغيره عما ستؤدي إليه تلك التصرفات الهوجاء من عواقب خطيرة، وأثارت مكاتبات الحجّاج حفيظة عبد الرحمن بن الأشعث، وحركت ما في نفسه من كره للحجّاج، فجمع الناس وخطبهم مبيناً لهم نصحه لهم ومعرضاً برأي الحجّاج، وطلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع ، وانفتح الباب لكل من أراد أن يتكلم، فتكلم عامر بن واثلة الكناني وكان شاعراً خطيباً، فكان مما قال: فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك ... وبعد كلامه دعا الناس إلى خلع الحجّاج ومبايعة عبد الرحمن بن الأشعث، فبايعهم ابن الأشعث على خلع الحجّاج والقتال معه حتى ينفي الله الحجّاج من العراق، ولم يذكر خلع عبد الملك .
ومن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث، وهذه الثورة وإن لم تكن لها جذور بعيدة وإن لم تسبقها خطوات إعداد كبيرة، إلا أنها كانت من أخطر الثورات التي قامت على الدولة الأموية أو أخطرها، حيث هددت كيان الخلافة بالزوال، واضطرت الخليفة إلى مساومة أصحابها بما لم يساوم به غيرهم من أصحاب الثورات السابقة .
وانحدر ابن الأشعث بجيشه وانضم إليه خلق كثير في طريقه إلى العراق قاصداً الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج أصيب بالهلع والذعر، فكتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر، ويطلب منه المدد، فتوالت الكتب بينه وبين عبد الملك، وتوالى إرسال الجيوش من عبد الملك في كل يوم إلى الحجّاج .
1 ـ موقف المهلب بن أبي صفرة من الأحداث:
كان المهلب بن أبي صفرة قد نهى ابن الأشعث عن فعلته قائلاً: إنك وضعت رجلك يابن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد ﷺ، الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: أخاف الناس على نفسي؛ فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم.
وكتب المهلب كذلك إلى الحجّاج بما يجب عليه أن يفعله في مواجهة ابن الأشعث حيث قال: فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من علٍ، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويشموا أولادهم، ثم وافقهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله .
ولكن لم يعر ابن الأشعث لنصح المهلب أدنى اهتمام، فتقدم نحو العراق، وفي وسط الطريق أقدم ابن الأشعث ومن معه على خطوة خطيرة؛ وهي خلع الخليفة عبد الملك بن مروان والسعي إلى تنحيته ، كما أن الحجّاج نظر إلى نصح المهلب من منظوره المتشكك فيمن حوله، فعده غشاً من المهلب، فقد قال عندما قرأ كتابه: فعل الله به وفعل، والله ما لي نظر، ولكن لابن عمه نصح .
2 ـ معركة الزاوية :
قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث ومن معه قبل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب، ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها، وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فاراً بنفسه ومن معه من أهل الشام، ونزل بالزاوية، عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له، فقال: لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي فلم نقبل ، وانضم إلى ابن الأشعث جموع كثيرة من أهل البصرة، والتقى ابن الأشعث بالحجّاج في الزاوية، وتتالت الهزائم بجيش الحجّاج، إلا أنه سنحت فرصة لفرقة من فرق الحجّاج؛ حيث تمكنت من إلحاق الهزيمة بإحدى فرق ابن الأشعث، فاستغل الحجّاج الفرصة وكثف الهجوم على خصمه، فاضطر ابن الأشعث إلى التراجع وسار نحو الكوفة تاركاً البصرة، فبايعه أهل الكوفة ولحق به أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالح والثغور ، وبلغ عدد من معه مئة ألف ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم
وقد دفعت الموالي أسبابٌ كثيرة للاشتراك في ثورة ابن الأشعث؛ منها:
أ ـ السياسة المالية التي تبعها الحجّاج نحوهم وإجبارهم على دفع الجزية بعد إسلامهم.
ب ـ حرمانهم من الأعطيات والأرزاق عند اشتراكهم في الفتوح.
جـ. حرمانهم من المساواة، وشعورهم بالظلم من ممارسة بعض ولاة الدولة الأموية . وغير ذلك من الأسباب.
اغتم عبد الملك لما حدث، ولما وصله الخبر نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته.
وخرج عبد الملك إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري، اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل .
3 ـ استعداد عبد الملك أن يضحي بالحجّاج ومعركة دير الجماجم:
لما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج، وقالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم، فإن عزله أيسر من حربهم، فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق، وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد شاء من العراق ويكون والياً، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج، ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال .
ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر، وكان من الطبيعي أن يستاء الحجّاج من هذا، وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان، بعد كل ما قدمه له من خدمات ، وكتب إليه يذكره بما حدث من أهل العراق مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم ترَ وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم ما يريدون ؟ قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه. إن الحديد بالحديد يفلح، خار الله لك فيما رأيت والسلام عليك .
غير أن عبد الملك كان مقتنعاً بالفكرة، وأن مصلحة الدولة عنده فوق كل اعتبار ورأى في ذلك منع الحرب . ولكن من حسن حظ الحجّاج أنه لما عرضت الفكرة على أهل العراق رفضوها بقوة، مع أن ابن الأشعث قبلها، وحثهم على قبولها، لكنهم لم يوافقوه، بل جددوا خلع عبد الملك، وظنوا الفرصة قد واتتهم للتخلص من الحكم الأموي ، وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص من الحجّاج، وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسنة، وإن انحرف عن شروطهم أمكنهم بعد ذلك عزله، ولكن يبدو أن الحس السياسي لدى زعماء ثورة ابن الأشعث كان غائباً، كما أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظات عاطفية ثورية ولم تكن نتيجة لمعرفة تامة به، وهل يستحق عن جدارة أن يكون أميرهم ؟!.
رفض ابن الأشعث تنازل عبد الملك في خلع الحجّاج وغيرها، فعندها سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج، وقالا: شأنك بعسكرك وجندك، فاعمل برأيك فإنا قد أُمرنا أن نسمع ونطيع لك .
وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، فاشتبكا في أشهر وقائعهم ـ التي زادت عن ثمانين موقعة ـ في دير الجماجم ، والتي استمرت مئة يوم، حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع من جمادى الاخرة سنة 83 هـ .
ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان من نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضاً، ثم ولى هارباً إلى سجستان ، حيث كان تصالح مع رتبيل على أن يسقط عنه الخراج إن ظفر، وإن هزم يأوي إليه ويحميه ، ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل ، فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَّ ابن الأشعث بغدر رتبيل، ألقى بنفسه من فوق القصر الذي كان فيه، فمات، فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85 هـ .
وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف من المسلمين، وهي ثورة دفعت إليها الأحقاد الشخصية المتأصلة في نفس ابن الأشعث والحجّاج كل منهما للاخر من ناحية، وبغض أهل العراق للحكم الأموي من ناحية ثانية ، ومظالم الحجّاج العظيمة التي دفعت بجمهور كبير من العلماء للانضمام للثورة والتخلص من الطاغية الحجّاج.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: