من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج1)
(القضاء على حركة الخوارج الأزارقة)
الحلقة: 107
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
هم أتباع نافع بن الأزرق، الذين يعدون أشد فرق الخوارج تطرفاً في الأفكار والمبادأى، وجنوحاً إلى العنف، وكان زعيم هذه الفرقة هو أول من أحدث الخلاف بين الخوارج لتطرفه، فقد برأى من القاعدين الذين لا يخرجون معه للقتال، كما قال بكفر من لم يهاجر إليه فضلاً عن إباحته أموال ودماء مخالفيه، وتكفيره لمرتكب الكبيرة وحكمه بخلوده في النار ، ومن أهم ما تميزت به هذه الفرقة:
ـ الانفصال الكامل عن المجتمع المسلم، حيث زعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر.
ـ إيمانهم بمبدأ الاستعراض، فكانوا يتعرضون للناس بالقتل والنهب، فقد أباحوا لأنفسهم قتل الرجال والنساء والصبيان من المسلمين.
ـ أنهم كفروا القعدة: ونافع أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال، وإن كانوا موافقين له على دينه، وكفَّر من لم يهاجر إليه، فهذه من أهم البدع التي فارق بها الأزارقة بقية الخوارج .
فارق الأزارقة بقيادة نافع بن الأزرق عبد الله بن الزبير عندما تبين لهم أنه لم يكن على رأيهم فيما يذهبون إليه، وقد انبثَّ أفراد هذه الفرقة الخارجية في مناطق البصرة والأهواز وما وراءها من بلاد فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير، وصاروا يحاربون المسلمين جهاراً ، وجاءت تولية المهلب على حرب الأزارقة بناء على اختيار أهل البصرة له واقتران ذلك بموافقة عبد الله بن الزبير ، إلا أن المهلَّب لم يخرج لقتالهم إلا بعد أن اشترط على أهل البصرة جملة شروط أجابوه إليها، فخُوِّل الحق باختيار من يشاء من المقاتلة، وأن تكون له إمرة وخراج كل بلد يقع في حوزته ، وانتخب المهلب اثني عشر ألف رجل من أخماس البصرة، ولم يكن بيت المال سوى مئتي ألف درهم عجزت عن عطاء الجند وعن تجهيزاتهم، فبعث المهلب إلى التجار وقال لهم: إن تجارتكم منذ حول قد كُسرت بانقطاع موارد الأهواز وفارس عنكم، فهلمّ فبايعوني وأخرجوا معي أُوفيكم إن شاء الله حقوقكم، فأخذ منهم من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه ما يلزم من التجهيزات، فلما انتصر المهلب على الخوارج، قام بجباية الخراج من الكور حتى قضى للتجار ما أخذ منهم .
استمر المهلب يقاوم الخوارج ما يقرب من عامين، ثم استدعاه مصعب بن الزبير الذي أصبح والي البصرة من قبل أخيه عبد الله ليشترك معه في حرب المختار الثقفي سنة 67 هـ، وبعد هزيمة المختار عين مصعب المهلب والياً على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية ، ولكن أحداً لم يستطع أن يقوم مقام المهلب في مقاومة الخوارج، مما اضطر مصعباً أن يستدعيه من الموصل ليتولَّى قتالهم من جديد .
وبينما المهلب يقاوم الخوارج في الأهواز تمكن عبد الملك بن مروان من بسط سيطرة الدولة الأموية على العراق، بعد مقتل مصعب بن الزبير سنة 72 هـ ، وولى أخاه بشر بن مروان على العراق وأمره بإبقاء المهلب على حرب الخوارج ومساعدته، فعمل بشر بما أمره به أخوه، وبرهن المهلب على إخلاصه في حرب الخوارج الأزارقة مهما كانت السلطة التي تصدر إليه الأوامر ، فكما قاتلهم تحت لواء ال الزبير استمر بقتالهم تحت لواء عبد الملك، ولما أسندت ولاية العراق إلى الحجّاج بن يوسف الثقفي سنة 75 هـ جدّ في مساعدة المهلب، وحشد له العراقيين وشد أزره، فاشتد في مقاومتهم، حتى تمكن من القضاء على خطرهم، وقد أتاح له الخوارج أنفسهم فرصة كسر شوكتهم عندما انقسموا على أنفسهم قسمين، قسم تزعمه رجل اسمه عبد ربه، فقد قضى عليه المهلب نهائياً ، وأما قطري بن الفجاءة ومجموعته فقد رحلوا إلى طبرستان، ولكن المهلب تمكن من القضاء عليهم سنة 77 هـ بمساعدة جيش أرسله إليه الحجّاج بقيادة سفيان بن الأبرد الكلبي .
وهكذا قضى المهلب على خطر من أكبر الأخطار التي هددت الدولة الأموية في عهد عبد الملك بن مروان، وهم الخوارج الأزارقة الذين كان مسرح عملياتهم العراق وبلاد فارس وكرمان والأهواز، واستمرت حركتهم ثلاثة عشر عاماً (65 ـ 78 هـ) .
1 ـ وصف المهلب بن أبي صفرة الأزدي وشيء من أقواله:
وصف المهلب بأنه كان نزر الكلام وجيزه، يفضل فعله على لسانه ، متلطفاً في إجاباته ، كاتماً للسر ، حليماً في موضع الحلم، شديداً في موضع الشدة، وإن كان الحلم أغلب عليه، فيروى أن رجلاً شتمه فلم يرد عليه. فقيل له: لم حلمت عنه؟ قال: لم أعرف مساويه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه ، واتصف المهلب بصبره وأناته في أعماله وحروبه، وكان يقول: أناة في عواقبها فوت، خير من عجلة في عواقبها درك ، وعندما كان الحجّاج يستعجله بمناجزة الأزارقة الخوارج، أجابه بقوله: إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره .
ومما اشتهر به المهلب في حروبه هو إعداده للبيات وإحكامه الأمور ، أي أنه كان يباغت أعداءه بشن الهجوم عليهم ليلاً، فيحرز انتصارات مؤزرة، واشتهر المهلب بكرمه وسخائه، ومن أقواله لأبنائه في هذا الباب: ما رأيت أحداً بين يدي قط إلا أحببت أن أرى ثيابي عليه، واعلموا يا بني أن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم ، وكان يحرص على شراء ود الناس، وله قول مأثور في ذلك: عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه ! وقيل له: بم ظفرت؟ قال: بطاعة الحزم، ومعصية الهوى .
2 ـ من أساليب المهلب في قتال الخوارج:
كانت سياسة المهلب تقوم على النَّفَس الطويل في محاربة الخوارج، وكان ينتظر تفجيرهم من الداخل، حتى يهون عليه أمرهم ويسهل القضاء عليهم، فقد كتب إلى الحجّاج: إني أنتظر منهم ثلاث خصال: موت صاحبهم قطري بن الفجاءة، أو فرقة وتشتيتاً، أو جوعاً قاتلاً ، ولم تخطأى تقديرات المهلب للخوارج؛ إذ سرعان ما دبّ الشقاق في صفوف الأزارقة، فما كان من المهلب إلا أن انتهز الفرصة فصعّد الخلاف في صفوفهم، فعمد إلى حيلة ناجحة، فقد عرف بين الخوارج رجلاً يصنع السهام المسمومة، فأرسل المهلب أحد أصحابه بكتاب أمره أن يلقيه بين عساكر قطري سراً؛ كتب فيه: أما بعد، فإن نصالك وصلت، وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما استوضح عن الصانع أنكر، فقام قطري بن الفجاءة بقتله، فخالفه بذلك عبد ربه الكبير ووقع خلاف جديد .
وتعميقاً للخلاف في صفوف الخوارج جنّد المهلب رجلاً نصرانياً، وأمره أن يسجد لقطري بن الفجاءة، فلما شاهده الخوارج أنكروا ذلك عليه وقتلوا النصراني واتهموا زعيمهم بتأليه نفسه . وأخذ الخوارج يقتتلون فيما بينهم، بينما المهلب ينتظر النتائج النهائية، التي تسفر عنها هذه التصفيات ليتفرغ لها، مما جعله لا يمتثل لأمر الحجّاج عندما طالبه بمقاتلتهم، بل كتب إليه: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تمّوا على ذلك، فهو الذي تريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رمق بعضهم بعضاً، فأناهضهم حينئذ، وهو أهون ما كانوا، وأضعفهم شوكة إن شاء الله تعالى ، فكف عنه الحجّاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم ، ثم سار إليهم المهلب وتهيأت له الخوارج بقيادة عبد ربه الكبير، ثم تلا ذلك قتل شديد تمكن المهلب في نهايته من طردهم من جيرفت، ثم لاحقهم حتى هزمهم هزيمة منكرة، وقتل زعيمهم عبد ربه ولم ينجُ منهم إلا عدد قليل ، ولعل نجاح المهلب يعود إلى أسلوبه الحربي، الذي يعتمد على المطاولة ويتجنب العجلة، بجانب قيادته الحكيمة وشجاعته وخبرته العسكرية ومكره في الحروب . قال الشاعر:
قد يدركُ المرءُ بالتدبيرِ ما عجزتْ
عنه الكماةُ ولم يحملْ على بَطَلِ
ونتيجة انتصاراته ضد الخوارج فقد رأى فيه الخليفة عبد الملك بأنه قادر على إيجاد التوازن بين الأطراف القبلية المتنازعة، فولاّه على خراسان، فمكث فيها خمس سنوات إلى أن توفي عام 82 هـ .
3 ـ قطري بن الفجاءة التميمي:
خرج زمن مصعب بن الزبير، فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلَّم عليه بالخلافة ـ عند الخوارج الأزارقة ـ وهزم الجيوش، واستفحل بلاؤه، وجهز إليه الحجّاج جيشاً بعد جيش فيكسرهم، وغلب على بلاد فارس، وله وقائع مشهودة، وشجاعة لم يسمع بمثلها وشعر فصيح سائر ، فله:
قد يدركُ المرءُ بالتدبيرِ ما عجزتْ
عنه الكماةُ ولم يحملْ على بَطَلِ
أقولُ لها وقدْ طارتْ شعاعاً
من الأبطال ويحكِ لَنْ تُراعي
فإنكِ لو سألتِ بقاءَ يومٍ
على الأجلٍ الذي لكَ لمْ تطاعِي
فصبراً في مجالِ الموتِ صبراً
فما نيلُ الخلودِ بمستطاعِ
ولا ثوبُ الحياةِ بثوبِ عزٍّ
فيُطوى عن أخي الخنع اليراعِ
سبيلُ الموتِ غايةُ كلِّ حيٍّ
وداعيةٌ لأهلِ الأرضِ داعي
ومن لم يُعتبط يهرمْ ويسأمْ
وتُسلمْهُ المنونُ إلى انقطاعِ
وما للمرء خيرٌ في حياةٍ
إذا ما عُدَّ من سِقْطِ المتاعِ
وقد أرسل الحجّاج لحربه سفيان بن الأبرد الكلبي، فانتصر عليه وقتله، وقيل: عثر به الفرس، فانكسرت فخذه بطبرستان، فظفروا به وحُمل رأسه سنة تسع وسبعين إلى الحجّاج، وكان خطيباً بليغاً كبير المحلِّ من أفراد زمانه.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: