الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج1)
(ظهور الخوارج الصفرية)
الحلقة: 108
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
الخوارج الصفرية هم أحد فرق الخوارج الرئيسة، وفي تعيين نسبتهم أقوالاً عدة؛ فقيل: إنهم أتباع زياد بن الأصفر، وقيل: ابن عبد الله بن صفار، وقيل: عبد الله بن قبيصة، وأطلق عليهم ذلك اللقب؛ لأن العبادة أنهكتهم فاصفرت وجوههم فنسبوا إلى تلك الصفرة ، وأياً كان ذلك السبب؛ فقد بدأت خطورة أمرهم من الصالحية أو أتباع صالح بن مسرح التميمي، ذلك الرجل الذي كان موطنه بين نصيبين ومساروين، وهو مؤسس فرقة الخوارج الصالحية، وسمت هذا الرجل الصمت والهدوء، وعدم التعجل، لذا ظل يعلم الناس في هدوء وسكينة عشرين سنة، وكان من أهم أتباعه وأنصاره ذلك الرجل المقدام الذي دوّخ جيوش الحجّاج في مواقع عدة، وهو شبيب بن يزيد الشيباني، والذي كان يسكن في الجانب الأيمن من الفرات في صحراء الكوفة.
وبدأ أمر الخوارج يعلو ولا سيما بعد محاولة شبيب اغتيال عبد الملك بن مروان في موسم الحج لولا وصول الخبر إلى عبد الملك فأخذ حذره وانقضى الموسم بسلام، وبدأ الحجاج في التضييق على صالح وأتباعه، فنزلوا جميعاً وبعثوا إلى إخوانهم واستعدوا للخروج على دولة الخلافة، وكان الرجل من الخوارج كأنه جيش بمفرده بعدته وعتاده، وكانت وقعات الخوارج مع جيوش الحجّاج كثيرة العدد وقد بدأت هذه الفرقة بالخروج على دولة الخلافة وهم مئة وعشرون .
وكانت بداية هذه الثورة من الموصل في شمال العراق، وكانت ثورة خطيرة جداً، فقد تمكن قائدها شبيب بن يزيد من هزيمة العديد من جيوش الحجّاج الجرارة وهي في عدد قليل، وتمكن من دخول الكوفة بعد أن قتل خمسة قوّاد أرسلهم الحجّاج لحربه واحداً بعد واحد، وكانت زوجته غزالة عديمة النظير في الشجاعة ، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة وال عمران ، ووفت بنذرها ، وعيّر عمران بن حطان شاعر الخوارج الحجّاج فقال:
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ
فتخاءُ تنفُرُ من صفيرِ الصَّافِرِ
هلاَّ كررتَ على غزالةَ في الوَغَى
بل كان قلبُك في جناحَي طائرِ
قرعتْ غـزالةُ قلبَـه بفوارسٍ
تركتْ مناظرَه كأمسِ الغابرِ
وقد قتل شبيب عدداً من أشراف الكوفة، ولكنه لم يتمكن من البقاء فيها فخرج منها، ثم عاد إليها ثانية وضرب عليها الحصار بعد أن هزم جيشاً للحجاج عدته ألوف، وقتل قائده عتاب بن ورقاء وهو ستمئة رجل .
ولما يئس الحجّاج من أهل الكوفة لتقاعسهم عن القتال، وهالته هزائمهم المتكررة وهم في أعداد كبيرة أمام شبيب وهو في أعداد قليلة، أرسل إلى عبد الملك بن مروان يطلب مدداً من أهل الشام، واضطر الحجاج أن يقود الجيش بنفسه، واستطاع هزيمة شبيب لأول مرة، فلاذ بالأهواز، فأرسل الحجّاج خلفه جيشاً التقى به هناك، ولم تكن النتيجة حاسمة لأي من الفريقين، غير أن شبيب غرق بينما كان يعبر أحد الأنهار، فلما سقط قال:{لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا }[سورة الأنفال:42] وانغمس في، ثم ارتفع وقال:{ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ }[سورة الأنعام:96] وغرق . وبهذا تخلص منه الحجّاج بعد أن كبد الدولة كثيراً من الأموال والأرواح ولولا الله و تدخل عبد الملك لكان من الممكن أن تتغير الأوضاع السياسية في العراق و المناطق الشرقية فقد استطاع أن يسوي المشكلة و وضع لها الحل المناسب من تجهيز الجيوش و ارسالها، و تولية القادة المحنكين لياجهوا شبيباً .
ومن اللطائف التي تذكر: حضر عتبان الحروري عند عبد الملك بن مروان، فقال: أنت القائل:
فإنْ يكُ منكمُ كان مروانُ وابنُه
وعمرٌو ومنكم هاشمٌ وحبيبُ
فمنّا حُصينٌ والبطينُ وقعنبٌ
ومنا أميرُ المؤمنين شبيبُ
فقال: إنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ؛ على النداء، فأعجبه وأطلقه . وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان (أمير) مرفوعاً كان مبتدأ، فيكون شبيب أمير المؤمنين، وإذا كان منصوباً فقد حذف منه حرف النداء، ومعناه: يا أمير المؤمنين منا شبيب، فلا يكون شبيب أمير المؤمنين، بل يكون منهم .
1 ـ من شعراء الخوارج عمران بن حطان:
هو عمران بن حطّان بن ظبيان، السدوسي البصري، من أعيان العُلماء، لكنّه من رؤوس الخوارج، حدّث عن عائشة وأبي موسى الأشعريّ وابن عباس، قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصحُّ حديثاً من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسَّان الأعرج ، وقد تميزت حياته أول الأمر بأنه فقيه ومحدث على منهج أهل السنة، ثم تزوج قريبة له ـ كانت على مذهب الخوارج ـ يريد أن يصرفها عن مذهبها، لكنها استمالته إلى مذهبها، كان ذلك وقد كبرت سنه وطال عمره، فضعف عن الحرب، وقنع بالدعاية إلى مذهبه بلسانه، ولم يستطع أن يشارك في الحرب بسيفه، ورضي القَعدة من الصفرية منه بهذا البيان، وطارده الحجّاج، ففر من العراق إلى الشام، وجعل يتنقل من مدينة إلى مدينة في استخفاء وتمويه وتغيير للأسماء، ونزل على روح بن زنباع الجذامي وأنس إلى كرمه وأخلاقه، وادّعى أنه أزديّ، فاستضافه روح سنة كاملة كان فيها معجباً بتقوى ضيفه الأزدي وعلمه وأدبه، وكان روح لا يسمع شعراً نادراً أو حديثاً غريباً عند عبد الملك ثم يقصه على صاحبه، أو يسأله عنه، إلا وجده عليماً به، وزائداً عليه، وذات يومٍ حدّث روح عبد الملك بن مروان بمزايا ضيفه الأزدي، فقال عبد الملك: إنه عمران بن حطان فأحضره ، وكان عبد الملك بن مروان قد أهدر دمه لما بلغ شعره عبد الملك في علي رضي الله عنه، وأدركته حمية لقرابته من علي رضي الله عنه، ووضع عليه العيون، وشعر عمران في علي قوله:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها
إلا ليبلغَ من ذي العرشِ رضوانا
إنِّي لأذكرُه حيناً فأحسبُه
أو في البريةِ عندَ الله ميزانا
أكرمْ بقومٍ بطونُ الطيرِ قبرُهُمُ
لم يخلطوا دينَهم بغياً وعدوانا
وعندما علم عمران بطلب عبد الملك له هرب إلى الجزيرة، ثم لحق بعمان، فأكرموه ، وقال شعراً في روح بن زنباع لما فارقه؛ حيث قال:
يا رَوْحُ كمْ من كريمٍ قد نزلتُ بِهِ
قد ظنَّ ظنَّك من لخمٍ وغسانِ
حتى إذا خِفْتُه زايلتُ منزلَهُ
من بعدِ ما قيل: عمرانُ بنُ حطَّانِ
قد كنتُ ضيفَكَ حولاً ما تُروّعُني
فيه طوارقُ من إنسٍ ولا جانِ
حتى أَردْتَ بي العظمى فأوحشني
ما يوحشُ الناسَ من خوفِ ابن مروانِ
لو كنتُ مستغفراً يوماً لطاغيةٍ
كنتَ المقدَّمَ في سرِّي وإعلاني
لكن أَبتْ لي اياتٌ مُفصَّلةٌ
عقدَ الولايةِ في (طه) و(عمران)
فهو في ثنائه على ابن زنباع لم يبح لنفسه أن يستغفر له، لأنه ليس في رأيه ممن يستحقون المغفرة، فهو طاغية وكافر، على طريقة أكثر الخوارج في تكفير مخالفيهم .
وكان من فحول الشعراء وقد شهد له بذلك الفرزدق، فقد وقف عمران بن حطان ذات يوم على الفرزدق وهو ينشد الناس فقال له:
أيها السائلُ ليُعطَى
إنَّ لله ما بأيدي العبادِ
فسلِ اللهَ ما طلبتَ إليهِم
وارجُ فضلَ المقسِّم العوَّادِ
لا تقلْ للئيمِ ما ليسَ فيه
وتسمّي البخيلَ باسمِ الجوادِ
وجاء في رواية: أن الفرزدق قال: الحمد لله الذي شغل عنا هذا ببدعته، ولولا ذلك للقينا منه عنتاً.
ومن شعر عمران في الزهد في الدنيا والتزود للاخرة: فعن قتادة قال: لقيني عمران بن حطان، فقال: يا أعمى، احفظ عني هذه الأبيات:
حتَّى مَتَى تُسقى النُّفوسُ بكأسها
ريبَ المنونِ وأنتَ لاهٍ ترتَعُ
أفقدْ رضيتَ بأن تُعلَّل بالمُنى
وإلى المنيَّة كلَّ يوم تُدْفَعُ
أحلامُ نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ
إن اللبيبَ بمثْلها لا يُخْدَعُ
فتزوّدنَّ ليومِ فقرِكَ دائماً
واجمعْ لنفسِكَ لا لغيرِكَ تجمعُ
ومن شعره في الموت ورثاء مرداس قوله:
إن كنتِ كارهةً للموتِ فارتحلي
ثمَّ اطلُبي أهلَ أرضٍ لا يموتونا
فلستِ واجدةً أرضاً بها بشرٌ
إلاَّ يروحونَ أفواجاً ويغدونا
إلى القبورِ فما تنفكُّ أربعةٌ
بذي سريرٍ إلى لحدٍ يمشونا
يا حمزُ قد ماتَ مرداسٌ وإخوته
وقبلَ موتهم مـاتَ النبيُّونا
وقد شهد له النقّاد في الشعر بأن شعره كان يتسم بانتقاء مفرداته في غير توعر وإغراب، وبجزالة عباراته في نسق لا تعقيد فيه ولا التواء ولا اعتساف بتقديم وتأخير، وكان يبتعد عن الخيال وما يجره من تهويل وتضخيم ، ومما يذكر في سيرة عمران بن حطان أن الحجّاج ظل يطارده ويطلبه طويلاً حتى ظفر به، فقال للحرس: اضرب عنق ابن الفاعلة، فقال عمران بئس ما أدبك به أهلك يا حجّاج ! أبعد الموت منزلة أمانعك عليها على ما كان منك أن ألقاك بمثل ما لقيتني به؟ فقال الحجّاج: صدق، أطلقوا عنه، فلما انطلق إلى الخوارج قالوا له: ارجع إلى قتال الحجاج فوالله ما هو أطلقك؛ الله الذي أطلقك، فقال: هيهات ! غلَّ يداً مطلقها واستقر رقبة معتقها، ثم قال:
أأقاتلُ الحجّاجَ عن سلطانِهِ
بيد تُقِرُّ بأنَّها مولاتُهُ
ماذا أقولُ إذا وقفتُ حيالَه
في الصفِّ واحتجَّتْ لَهُ فِعْلاتُهُ
وتحدَّثَ الأقوامُ أنَّ صنيعَهُ
غُرِسَتْ لديَّ فحنظلتْ نخلاتُهُ
تاللهِ لو جئتُ الأميرَ بالةٍ
وجوارحي وسلاحيَ الاتُهُ
هذا وقد توفي عمران بن حطان سنة 84 هـ .
2 ـ أسباب فشل الخوارج في عهد عبد الملك:
فشلت ثورات الخوارج في تحقيق الهدف الذي كانت تسعى إليه لأسباب؛ منها:
أ ـ أن الخوارج كانوا يخرجون في أعداد قليلة وفي أوقات متباعدة، مما سهل على ولاة الدولة الأموية القضاء عليهم.
ب ـ طغيان مذهب التشيع على أهل الكوفة، ومناقضة ذلك المذهب لمبدأ الخوارج، وكره أهل الكوفة والشيعة عامة للخوارج لخروجهم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وتكفيرهم إياه، فساعد هؤلاء ولاة الدولة في غالب الأحيان على قتال الخوارج.
جـ. موقف أهل البصرة واندفاعهم إلى مقاومة الخوارج والقضاء عليهم ليحافظوا على تجارتهم واستمرارها.
د ـ تفرق الخوارج إلى فرق متعددة، مما أدى إلى إضعافهم وتفتيت وحدتهم، فسهل على ولاة الدولة القضاء عليهم.
هـ. الأعمال التخريبية التي كانوا يحدثونها من قتل النساء والأطفال وقتل مخالفيهم، وإحراق القرى وكسر الخراج وقطع طرق التجارة، مما أدى إلى كرههم من جانب الناس عامة، فاندفعوا إلى مساعدة ولاة الدولة في القضاء عليهم؛ هذه هي أهم الأسباب التي جعلت الخوارج يفشلون في التخلص من الحكم الأموي، وتطبيق أفكارهم ومعتقداتهم التي يؤمنون بها .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022