من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(جوانب من حياة عبد الملك بن مروان السياسية قبل الإمارة)
الحلقة: المائة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020
كان أول حادث سياسي أثر في حياته عندما كان عمره عشر سنوات، فقد شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان لهذا الحادث أثر في سياسته لما تولى الإمارة، فقد قال في إحدى خطبه: أيها الناس ! إنا نحتمل لكم كل اللغوبة ما لم يكن رأي أو وثوب على منبر ، وأول منصب إداري تولاه في الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد كان عاملاً على هجر ثم تولى ديوان المدينة بعد وفاة زيد بن ثابت ، وشارك في الجهاد فقد خرج على رأس حملة إلى أرض الروم ويشتي هناك في سنة 42 ه ، كما يذكر أنه غزا إفريقية مع معاوية بن حديج وكلفه بفتح جلولا في بلاد الشمال الإفريقي، وفي عهد يزيد كان يقول على ابن الزبير: ما على الأرض اليوم خيراً منه، كما أن علاقته بمصعب بن الزبير كانت حسنة.
وأما عن دوره السياسي في عهد مروان بن الحكم، فقد تولى فلسطين وكان يبعث نائباً عنه روح بن زنباع ، ويمكن أن يكون ذلك ليبقى في دمشق قريباً من إدارة الدولة لمساعدة والده هناك، لاسيما أن الفترة التي تولى فيها والده الحكم كانت الدولة محاطة فيها بالأعداء من الداخل والخارج، وتولى إمرة دمشق عند ذهاب والده لفتح مصر ، وهذه المهمة تدل على كفايته الإدارية وحزمه .
العلماء الذين كانوا مع عبد الملك:
بايع بعض العلماء لعبد الملك بن مروان بالشام وكانوا قلة لا يعدون شيئاً أمام العلماء الذين بايعوا ابن الزبير أو الذين اعتزلوا حتى تجتمع الأمة على خليفة، وانحصر وجود هؤلاء في إقليم الشام، وقد ذكر من هؤلاء العالم الجليل قبيصة بن ذؤيب ـ رحمه الله ـ، فكان من المبايعين لعبد الملك وأحد المقربين إليه ، ومنهم يزيد بن الأسود الجرشي ـ رحمه الله ـ، فورد أنه كان مع عبد الملك في خروجه لقتال مصعب بن الزبير، وروي عنه أنه حين رأى الجيشين قد التقيا قال: اللهم احجز بين هذين الجبلين وولِّ الأمر أحبهما إليك .
حركة التوابين ومعركة عين الوردة (65 هـ):
عندما عمّ الاضطراب أنحاء البلاد بعد موت يزيد وفرار عبيد الله بن زياد، شرع أنصار الحسين يتصلون ببعضهم البعض بهدف وضع خطة للثأر لدمه، إذ بعد استشهاده هزتهم الفاجعة وندموا على تقاعسهم عن نصرته، والدفاع عنه، معترفين بخطيئتهم بحماسة شديدة، لذلك لم يجدوا وسيلة يكفرون بها عن هذا التقصير ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب الكبير سوى الثأر للحسين .
وأخذ الشيعة يعقدون الاجتماعات برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي لدراسة الموقف، وأسلوب العمل الذي سيتبعونه، وغلب على هذه الاجتماعات موضوع التوبة والغفران، ثم شرعوا في تجييش الناس، وخرج التوابون من معسكرهم في النخيلة في شهر ربيع الأول 65 هـ، وهو الموعد الذي حددوه لخروجهم، وكانت المحطة الأولى في مسيرتهم الانتقامية في كربلاء، حيث بلغوا قبر الحسين فاسترحموا عليه وبكوا وتابوا عن خذلانهم له، وبعد يوم وليلة من البكاء كان الحماس قد أخذ منهم حتى العمق، فقرروا السير إلى الشام لقتال عبيد الله بن زياد باعتباره الرجل الذي أصدر الأمر بقتل الحسين، لأنهم وجدوا أنه الطريق الأجدى لتحقيق الانتقام .
ومرّ جيش التوابين ببلدة هيت على الفرات، ثم صعد مع النهر إلى أن وصل إلى قرقيسياء . وكانت هذه المدينة هي أبعد المناطق في هذا الاتجاه التي اعترفت ولو اسمياً ببيعة ابن الزبير ، واستقبل أمير قرقيسياء زفر بن الحارث الكلابي، جيش التوابين بحماسة خاصة، لأنه قد جمعت الفريقين مصلحة مشتركة هي مقاتلة الأمويين، واقترح زفر عليهم توحيد صفوفهم مع أنصار ابن الزبير، إلا أنهم اعتذروا عن قبول اقتراحه كما رفضوا نصيحته بالعدول عن قرارهم الانتحاري، واكتفوا بالتزود بما يحتاجون إليه من المدينة ثم مضوا إلى مصيرهم .
والتقى التوابون بالجيش الأموي في عين الوردة من أرض الجزيرة إلى الشمال الغربي من صفين في عام 65 هـ، وخاضوا ضده معركة ضارية غير متكافئة بفعل قلة عددهم بالمقارنة مع عدد أفراد الجيش الأموي، أسفرت عن تدميرهم ومقتل زعمائهم باستثناء رفاعة بن شداد الذي تراجع بالبقية القليلة منهم إلى الكوفة .
وقد علق الذهبي على سليمان بن صرد زعيم جيش التوابين بقوله: كان ديِّناً عابداً، خرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسُمُّوا جيش التوابين ، وعلق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين ، وكان عمر سليمان بن صرد رضي الله عنه يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة .
والحق أن الإنسان يقف مبهوراً أمام شجاعة التوابين وجرأتهم؛ فقد كان عددهم لا يتجاوز أربعة الاف رجل، وخاضوا هذه المعركة بإيمان صادق، وعقيدة راسخة، وشجاعة نادرة، وصبر فائق، مع عشرين ألف جندي على أقل تقدير من أهل الشام، وأنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، ولولا كثرة جيش الشام حتى استطاعوا أن يلتفوا حولهم، ويضربوا عليهم طوقاً، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم رموهم بالنَّبل لما استطاعوا الانتصار عليهم ، ولكنا إزاء هذا الإعجاب بشجاعتهم، وإخلاصهم وتقانيهم في القتال، لا نملك إلا أن نتساءل: أين كانت هذه الشجاعة يوم تركوا الحسين رضي الله عنه يواجه الموت هو وأهل بيته، دون أن يتحرك منهم أحد ؟!.
وأما أهم أسباب فشل التوابين فهي:
1 ـ قلة عددهم إذا ما قورنوا بجيش الشام، فكان عدد التوابين أربعة الاف مقاتل، بينما كان جيش خصمهم الذين اشتبكوا معهم عشرين ألفاً عدا من كان ينتظر مع عبيد الله بن زياد على سبيل الاحتياط.
2 ـ ضعف التوابين من الناحية العسكرية، فلا نستطيع أن نقارن أي واحد من قادة التوابين بقدرة ابن زياد أو حصين بن نمير من حيث الخبرة والقدرة العسكرية، وهذا يتفق مع وصف المختار الثقفي لسليمان بن صرد: إن سليمان رجل لا علم له بالحرب وسياسة الرجال .
3 ـ تخاذل التوابين عن الاشتراك، فعندما أحصى ابن صرد من بايعوا وجدهم ستة عشر ألفاً عدا أهل المدائن والبصرة الذين لم يتم تنسيقهم مع الاخرين مع أن المشتركين في القتال هم أربعة الاف.
4 ـ عدم اشتراك المختار الثقفي في القتال، وليت الأمر كذلك ولكنه كان يثبط الناس عن سليمان بن صُرد.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: