الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(حركة عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) ومقتله)
الحلقة: 102
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
 
1 جمادى الأولى 1442 ه/ 16 ديسمبر 2020
نصت مقررات مؤتمر الجابية كما أشرنا على أن تكون الخلافة لعمرو بن سعيد الأشدق بعد مروان بن الحكم وخالد بن يزيد بن معاوية، وتجاوز مروان عمراً وبايع لابنيه عبد الملك، وعبد العزيز، الأمر الذي اثار نقمة عمرو، بعكس خالد بن يزيد الذي انصرف إلى العلم لاسيما الكيمياء ، وفي أول سنة 69 هـ خرج عبد الملك بجنوده يريد قرقيسية، ليحاصر فيها زفر بن الحارث، واستخلف على دمشق عمرو بن سعيد بن أبي العاص، ولم يكد عبد الملك يخرج بجيشه من دمشق، حتى تحصن بها عمرو بن سعيد، وأخذ ما في بيت المال من الأموال، وتذكر رواية أخرى أن عمرو بن سعيد كان مع عبد الملك حين خرج إلى قرقيسيا، ولكنه استغل فرصة الليل، وانخذل هو وجماعة معه من الجيش، ورجعوا إلى دمشق، ففر والي دمشق من قبل عبد الملك عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، ودخلها عمرو بن سعيد واستحوذ على ما فيها من الخزائن ، وبعث عمرو إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يجده، فأمر بهدم بيته، واجتمع الناس وصعد عمرو المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة وناراً، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إليَّ من ذلك شيء، غير أن لكم عليّ حسن المواساة والعطية .
وأصبح عبد الملك فسأل عن عمرو بن سعيد فلم يجده، فكرّ راجعاً إلى دمشق، فوجد عمراً وقد تحصن بها، ودارت بينهما معركة استمرت ستة عشر يوماً ، ويبدو أن عبد الملك قد رأى موقف عمرو قوياً؛ حيث كان متحصناً بقلعة رومية منيعة، فعرض الصلح، فتصالحا على ترك القتال .
1 ـ شروط عمرو بن سعيد بن العاص:
كانت شروطه كالاتي: أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك ، وأن يكون له عامل مع كل عامل لعبد الملك، وأن يستشيره في كل صغيرة وكبيرة ويوليه الديوان وبيت المال ، وتبرز كتب التاريخ أسباباً عديدة دعت عبد الملك بالقبول بهذه الشروط؛ منها:
أ ـ انقسام قبيلة كلب ذات القوة والتأثير السياسي في الأحداث انذاك بين عبد الملك وعمرو الأشدق، مما جعل كسب المعركة بالقوة يؤدي إلى خسائر فادحة لكلا الطرفين، ولم يكن لصالح كلب التي فرضت الصلح .
ب ـ سيطرة عمرو الأشدق على مدينة دمشق التي تعد العاصمة انذاك وفيها بيت المال وديوان الجند اللذان يعدان عصب الحياة، وكسب المؤيدين انذاك.
جـ. وقوف أكثر القبائل اليمانية الأخرى على هامش الحياة، وعدم تدخلها في الصراع، مما يجعل القرار الفعلي للصلح بيد قبيلة كلب ذاتها .
د ـ قوة عمرو الأشدق في الشام وخاصة في دمشق؛ فقد أيدته دمشق فضلاً عن زعيم بجيلة عبد الله بن كريز القسري الذي كان مع شرطته .
هـ. ويمكن أن يكون قبول الاتفاقية من قبل عبد الملك لحل النزاع سلمياً، ثم القيام بقتل عمرو الأشدق بعد اتفاقه مع بعض زعماء الشام وبني أمية .
2 ـ غدر عبد الملك بابن عمه عمرو بن سعيد:
وبعد عقد الصلح ودخول عبد الملك دمشق بأربعة أيام، أرسل إلى عمرو: أن
ائتني.. فلما كان بعد الظهر لبس عمرو درعاً بين ثيابه، وتقلد سيفه فلما نهض عثر في البساط، فقالت امرأته وبعض من كان حاضراً عنده: إنا لا نرى أن تذهب إليه، فلم يعبأ بكلامهم، ومضى في مئة من عبيده، وكان عبد الملك قد أمر بني مروان بالحضور عنده، وأمر حاجبه أن يدخل ابن سعيد ويغلق الباب دون من معه..
ثم غُلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك، فرحب به وأجلسه معه على السَّرير، ثم جعل يحدثه طويلاً. ثم إن عبد الملك قال: يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أو تطمع أن تتحدَّث معي متقلِّداً سيفك؟ فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدَّثا ساعة، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية. قال: لبيك يا أمير المؤمنين ! قال: إنك حيث خلعتني اليت بيميني إن ملأتُ عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة. فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أُطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أميّة؟ فقال بنو مروان: أبرَّ قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو: أبرّ قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن تُخرجني فيها على رؤوس الناس فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لاها الله إذاً، ما كنّا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس، ولمّا نخرجها منك إلا صعداً . ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيَّته، فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك. فقال عبد الملك: والله لو أعلم أنّك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قطّ في بلد على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه .
وجاء في رواية: أن عبد الملك كلّف أخاه عبد العزيز بقتله. وخرج لصلاة العصر، ولما رجع من صلاته وجد أخاه لم يقتله، فلامه وسبّه وسبّ أمه ـ ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك ـ فقال: إنه ناشدني الله والرحم، وكان ابن عمة عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها، فلم تغنِ شيئاً، ثم ثنى فلم تغن شيئاً، فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال:
ودارعٌ أيضاً، إن كنت لمُعِدّاً، يا غلام ائتني بالصّمصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصُرع فجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرُو إن لا تدعْ شتمي ومنقصتي
أَضْرِبْكَ حتى تقولُ الهامةُ اسْقوني
وانتفض عبد الملك بعدما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جداً؛ بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولاً، فوضعوه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قتلة، صاحب دنيا ولا طالب اخرة. ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أمّ الحكم، فخرج به للناس فألقاه بين أظهرهم، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدرُ من الأموال تحمل، فأُلقيت بين الناس فجعلوا يختطفونها، ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك إلى بيت المال، ويقال: إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزُّعيزعة بعدما خرج عبد الملك في الصلاة .
وهكذا تخلص عبد الملك من منافس قوي له ولم يبالِ بنقض العهود، وسفك الدماء، فالطريق نحو الملك جعله يتخلص من ابن عمته عمرو بن سعيد، ومن أحب الأصدقاء إليه مصعب بن الزبير، ومن أفضل أهل الأرض في زمانه على حدِّ تعبيره عبد الله بن الزبير.
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022