الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(نهاية أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما)
الحلقة: 104
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
 
أولاً: محاولات الأمويين إخضاع الحجاز قبل حصار ابن الزبير الأخير:
كانت المناوشات مستمرة بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان على الجبهة الحجازية، ومن أهم الحملات التي شنها الطرفان:
1 ـ حملة حبيش بن دلجة القيني:
تكاد تجمع الروايات أن مروان بن الحكم هو الذي أرسل هذه الحملة إلى الحجاز، وذلك بعد مقدمه من مصر . والذي يظهر أن هذه الحملة أرسلت في أواخر عهد مروان بن الحكم؛ حيث توفي مروان قبل أن تكمل مهمتها، الأمر الذي حدا ببعض المؤرخين أن يذكروا أن عبد الملك بن مروان هو الذي أرسل هذه الحملة ، وكان عدد أفراد هذه الحملة يتراوح ما بين 6400 إلى 7000 رجل ، واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش، فقد أرسل الحارث بن أبي ربيعة ـ وكان والياً على البصرة ـ جيشاً بقيادة الحنتف بن السجف التميمي لمواجهة جيش حبيش بن دلجة، ومن جهته أرسل ابن الزبير جيشاً اخر بقيادة عباس بن سهل بن سعد الأنصاري ليلتقي بجيش الحنتف ويتحدان للقضاء على جيش حبيش، وهذا ما تمّ فعلاً ، بالربذة .
2 ـ حملة نائل بن قيس الجذامي:
أرسل ابن الزبير نائلاً بحملة بعد وفاة الحنتف بن السجف بوادي القرى، وأمره أن يعبر إلى نواحي الشام وأن يكون مسلحة بها ، وفي رواية أخرى تذكر: أن ابن الزبير بعث نائلاً بعد وفاة مروان، وأمره أن يأتي فلسطين ، وعلى أية حال فكلا الروايتين تتفقان على أن عبد الملك بن مروان استطاع أن يقضي على نائل بن قيس (بأجنادين)، وقد قتل نائل وأصحابه بفلسطين سنة 66 هـ.
3 ـ حملة عروة بن أنيف:
بعث عبد الملك عروة بن أنيف في ستة الاف إلى المدينة، وأمرهم أن لا ينزلوا على أحد، ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية أو يعسكروا (بالعرصة) وسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة، وتشير الرواية إلى أن الحارث بن حاطب ـ عامل ابن الزبير على المدينة ـ هرب منها، وكان عروة يدخلها ويصلي الجمعة بالناس ثم يعود إلى معسكره، ومكث عروة على هذا الوضع شهراً، ولم يبعث إليه ابن الزبير أحداً، ولم يحدث أي مواجهة بين جيش عروة وابن الزبير، عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع .
4 ـ حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم:
أرسل عبد الملك بن مروان هذه الحملة وقوامها أربعة الاف إلى المدينة، وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بين الشام والمدينة. عسكر عبد الملك بن الحارث بوادي القرى ومن هناك أرسل فرقة قوامها خمسمئة رجل بقيادة أبي القمقام إلى سليمان بن خالد ـ عامل ابن الزبير على خيبر وفدك ـ للقضاء عليه وقد حاول سليمان الهرب منهم، لكنهم أدركوه وقتلوه ولم يستطع ابن الزبير عمل شيء حيال ذلك سوى عزله الحارث بن حطاب وتولية جابر بن الأسود مكانه، وأرسل جابر بن الأسود من جهته حملة بقيادة
أبي بكر بن أبي قيس إلى أبي القمقام بخيبر، واستطاع أبو بكر أن يلحق بخصمه الهزيمة .
5 ـ حملة طارق بن عمرو:
كانت هذه الحملة هي اخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز، وكان الهدف منها أن يسيطر فيما بين ( أيلة) و(وادي القرى) ويكون مدداً لمن يحتاج إليه من عمال عبد الملك بن مروان، وفي الوقت نفسه تكون سداً أمام تحركات ابن الزبير، وطلب ابن الزبير من واليه على البصرة إرسال قوات لحماية المدينة، فأرسل إليه ألفي رجل بقيادة ابن رواس، واستطاعت تلك القوات حماية المدينة، ولكن ما لبث ابن الزبير أن أمر ابن رواس بالمسير إلى طارق بن عمرو، وكانت نتيجة الصّدام انتصار طارق بن عمرو، وعاد طارق بن عمرو إلى أم القرى ملتزماً بالمهمة التي أوكلها له عبد الملك .
ثانياً: الحصار الثاني وسقوط خلافة ابن الزبير:
كان انتصار عبد الملك بن مروان على مصعب بن الزبير في معركة دير الجاثليق إيذاناً بانتهاء دولة عبد الله بن الزبير؛ فقد استقرت له الأمور في جميع الأمصار الإسلامية، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود، لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فتَّ في عضده وأصابه بالإحباط، ولكنه لم يلق رايته وظل يقاوم حتى النهاية.
لم يضيع عبد الملك بن مروان وقتاً بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائياً على دولة ابن الزبير ، ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف، وتوجه بجيشه إلى الحجاز، واستقر بالطائف وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها، فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها ، وأمر عبد الملك طارق بن عمرو الذي كان مرابطاً بوادي القرى أن ينضم إلى جيش الحجاج، فتوجه طارق إليه وكان معه خمسة الاف رجل .
1 ـ الحصار الاقتصادي:
وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة، ويروي ابن حزم أن عبد الملك بن مروان كان يساهم في فرض هذا الحصار، فقد أوكل إلى خالد بن ربيعة بمهمة قطع الميرة عن ابن الزبير وأهل مكة ، وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير، وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه ، وفي الوقت نفسه: كانت العير تحمل إلى أهل الشام من عند عبد الملك السويق، والكعك والدقيق ، وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بين أنصار ابن الزبير، وبدؤوا ينسحبون واحداً تلو الاخر، ومما شجع على تخاذل هؤلاء إعطاء الحجاج الأمان لكل من كف عن القتال وانسحب من جيش ابن الزبير .
2 ـ نصب المنجنيق على جبال مكة:
أراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته، فأجابه عبد الملك بقوله: افعل ما ترى. وهذه الإجابة تحمل في مضمونها الموافقة على طلب الحجاج المتحفز لقتال ابن الزبير، وتوجه الحجاج بن يوسف بجميع جيشه إلى مكة، ونصب المنجنيق على جبالها وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضرباً متواصلاً، وفي الوقت نفسه كان بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير ، وتوسط بعض أعيان مكة وعلى رأسهم ابن عمر لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق، فأجابهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ماذا أصنع ولقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جاءت إلى مكة من كافة الأقطار الإسلامية، وقد منعهم من الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون من خطر المنجنيق، ولما كان في ذلك تعطيل لركن من أركان الحج؛ فقد تدخَّل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتق الله؛ فإنك في شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً ، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس من الحج، وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت ، وأياً ما كان فقد كف عن استعمال المنجنيق حتى انتهى الناس من الطواف ،وبعدما انتهى موسم الحج، نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد، وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير ، ويروي البلاذري أن العديد ممن كانوا مع ابن الزبير حاولوا إقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم، وأصر على القتال، وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير رضي الله عنهما في مواجهة كتائب الحجاج، ولم يمنعه سِنُّهُ وخذلان من حوله، من الثبات على مبدئه الذي قاتل من أجله .
3 ـ أسماء بنت الصديق ترسم لابنها طريق الأحرار:
بعد انتهاء موسم الحج نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى بلادهم لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة ، وبالفعل بدأ يضرب الكعبة، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، ومنهم ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما.
فلما رأى ذلك دخل على أمه فقال لها: يا أمه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكراً، ولا عمل بفاحشة، ولم يَجُرْ في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء اثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني، فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيراً، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهمّ قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين ، فتناول يديها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأنّي أرى هذا اخر أيامي من الدنيا، قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: ما لبسته إلاّ لأشدّ منك. قالت: فإنّه لا يشدّ مني، فنزعها ثمّ أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمّرة، ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:
إني إذا أعرفُ يومي أصبرُ
وإنَّما يعرفُ يومَهُ الحُرُّ
فسمعت والدته قوله فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب .
4 ـ استشهاد ابن الزبير رضي الله عنهما:
إن الثبات على المبدأ ـ وإن كان يعارض مصالح الشخص، ويعرضها للخطر ـ يعتبر من أنبل الصفات، وقد تأصَّلت هذه الصفة في ابن الزبير، فما وهن وما ضعف وما استكان في سبيل المبادأى التي نادى من أجلها؛ ففي اخر يوم من حياته صلّى ركعتي الفجر، ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: حرفاً {نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ }، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة جاء فيها: ... فلا يرعكم وقع السيوف؛ فإني لم أحضر موطناً قط إلا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأً كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقة، ويشغل كل امرأى قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول.
أبى لابْنِ سلمَى أنَّه غيرُ خالدِ
ملاقي المَنَايا أي صرفٍ تيمّما
فلستُ بمبتاعِ الحياةِ بسُبَّةٍ
ولا مُرتَقٍ منْ خشيةِ الموتِ سُلَّما
احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرُمي باجُرَّة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:
فلسنا على الأعقابِ تَدْمى كلومُنا
ولكن على أقدامِنا تقطرُ الدَّما
وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الاخرة وله ثلاث وسبعون سنة ، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، وسار الحجّاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجّاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنّا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا مَنَعة فينتصف منّا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقاً ، ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك ، وقد ذكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيت في ليلتي كأنَّ السماء فرجت لي، فدخلتها، فقد والله مللت الحياة وما فيها .
5 ـ أسماء رضي الله عنها تقيم الحجة على الحجّاج:
لما قتل عبد الله خرجت إليه أمُّه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجّاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، وإنك بين فرشها والجيّة. فقال إنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى:. وقد أذاقه الله ذلك العذاب {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *﴾، قطع السبل، قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله ﷺ، وحنّكه بيده وكبّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ خير منك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برّاً بالوالدين صوّاماً قوّاماً بكتاب الله معظماً لحُرُم الله، يُبْغِضُ أن يُعصى الله عز وجل ، وقد دافعت عن ابنها دفاعاً مجيداً، فانكسر الحجّاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء وقال: ما لك ولابنة الرجل الصالح .
6 ـ ابن عمر وثناؤه على ابن الزبير بعد استشهاده:.
مرّ عبد الله بن عمر على ابن الزبير بعد صلبه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خُبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صوّاماً قوّاماً وصولاً للرحم، أما والله لأُمّة أنت شرُّها لأمة خير. ثم نفذ عبد الله بن عمر، فبلغ الحجّاج وقوف ابن عمر عليه وقوله، فأرسل إليه فأنزله عن جذِعة .
7 ـ بيعة ابن عمر لعبد الملك:
لما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: أما بعد: فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيَّ قد أقرّوا بذلك، وجاء في رواية: أن ابن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان فبدأ باسمه، فكتب إليه: أما بعد: ف{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ }وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك ، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون والسلام . وحاول بعض بطانة الخليفة أن يوغروا صدره على ابن عمر لأنه بدأ باسمه قبل اسم الخليفة، فقال عبد الملك: إن هذا من أبي عبد الرحمن كثير ؟. وكان مما كتب به عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج لما يعرفه من فضله وفقهه
8 ـ ابن عمر رضي الله عنهما والحجـاج:
بقي الحجّاج بن يوسف الثقفي والياً على مكة بعد مقتل ابن الزبير وكان عبد الله بن عمر يترك المدينة ويأتي مكة حاجاً أو معتمراً، ويرى أو يسمع من أفعال الحجاج وأقواله المخالفة للشرع فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر يرد عليه بكل جرأة وشجاعة ، وبعدما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وتمت له السيطرة على مكة خطب الناس، وكان مما قال: إن ابن الزبير حرَّف كتاب الله ـ وفي رواية: غير كتاب الله ـ فقام ابن عمر وقال: كذبت كذبت كذبت، ما يستطيع ذلك، ولا أنت معه .وخطب الحجاج الناس يوم الجمعة، فأطال حتى كاد يذهب وقت الصلاة، فقام ابن عمر فقال: أيها الناس قوموا إلى صلاتكم فقام الناس، فنزل الحجاج فصلى، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك، فقال: إنما نجيء للصلاة فصلِّ الصلاة لوقتها، ثم بقبق بعد ذلك ما شئت من بقبقة .
كما أنكر ابن عمر على الحجّاج تهاونه في إشاعة حمل السلاح في مكة، وتركه لرجال جيشه يضايقون به المسلمين ويعرضون حياتهم بذلك للخطر، ففي الصحيح عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه فلزقت قدمه بالركاب، فنزلت فنزعتها وذلك بمنى، فبلغ الحجّاج فجعل يعوده، فقال الحجّاج: لو نعلم من أصابك ! فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف ؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم.
وفي رواية عن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دخل الحجّاج على ابن عمر وأنا عنده، فقال: كيف هو ؟ فقال: صالح. فقال: من أصابك، قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله ـ يعني الحجّاج ـ ولما خرج الحجّاج قال ابن عمر: ما اسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث؛ وذكر منها: ألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا ، يقول الذهبي في تعليقه: يعني بالفئة الباغية: الحجّاج ، وأنا أزيد ومن أرسله.
9 ـ منهج ابن عمر في الفتن:
لم يكن ابن عمر بمنأى عن الأحداث السياسية من حوله، بل كانت له نظراته وتحليلاته لتلك الأحداث، وتميز ابن عمر بمواقفه في الفتن تميزاً واضحاً؛ فقد عايش عدداً من الفتن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية انذاك، وقد كشفت تلك الفتن عن حكمة بالغة ونظرة ثاقبة للأحداث مما جعلته بحق مدرسة مليئة بالدروس المفيدة والاداب الجمة التي اهتدى بها كثير من الناس في عصره، وأصبحت بعده معلماً يقتدي به من بعده ، كما قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: يُقتدى بعمر في الجماعة وبابنه في الفرقة .
ومن أبرز ما يميز منهج ابن عمر في التعامل مع الفتن ما يلي:
أ ـ تجنب القتال والحرص على حقن دماء المسلمين:
وقد وردت عدة روايات توضح موقف ابن عمر رضي الله عنهما من ذلك القتال الدائر في الفتنة الأولى والثانية؛ فعن القاسم بن عبد الرحمن قال: قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول: لا إله إلا الله. قالوا: والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يفني أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم بعضاً، حتى إذا لم يبق غيرك قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله ما ذلك فيَّ، ولكن إذا قلتم: حي على الفلاح أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم .
وجاءه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر وصاحب رسول الله ﷺ؛ فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فسأله أحدهما قائلاً: ألم يقل الله: {وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ }؟! فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يرد، قال: فما قولك في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر: ما قولي في علي وعثمان ؛ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما علي فابن عم رسول الله ﷺ وختنه وأشار بيده، وهذا بيته حيث ترون،ولم يكتفِ ابن عمر رضي الله عنهما بالحرص على كف نفسه وتجنيبها إراقة دماء المسلمين، بل سلك بعض السبل التي تؤدي إلى تجنب المسلمين إراقة الدماء فيما بينهم، من ذلك محاولته الجادة ـ خلال الخلاف بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان ـ لإنهاء القتال بينهما حقناً لدماء المسلمين ؛ فروى المدائني: أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان يأمره بتقوى الله، وأن يكف نفسه، فكتب إليه عبد الملك أنه سيخرج نفسه ويجعل الأمر شورى، فلما كتب ابن عمر إلى ابن الزبير بذلك لم يلتفت إليه .
ب ـ الحث على السمع والطاعة للإمام القائم، ونهيه عن إثارة الفتنة وتفريق الكلمة:
قال ابن عمر رضي الله عنهما: جاءني رجل في خلافة عثمان، فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله ﷺ حي: أفضل أمة محمد بعده: أبو بكر وعمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق، أو جاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هذا المال، إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه قرابته سخطتم. إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون أميراً إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا تُرْد ذلك . وروى سالم بن عبد الله بن عمر: أن أباه قال: لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه .
فانظر إلى أي مدى كان حرص عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الدفاع عن عثمان والذب عن عرضه والتصدي لما يثيره أهل الفتنة ضد عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما كان يعلم من خطورة مثل هذا المنحى وما يؤدي إليه النيل من الخليفة والطغاة فيه من فساد، وفرقة، لذا فإن عثمان منحه ثقته فكان يستشيره إبان محنته مع الغوغاء، فحين دخل عليه ابن عمر قال له عثمان: انظر ما يقول هؤلاء؛ يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له ابن عمر: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلونك؟ قال: لا، قال: هل يملكون لك جنة أو ناراً؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه . وهذا الرأي من ابن عمر ينم عن بُعد نظره وتقديره لعواقب الأمور، وقد أدى استعداده لحمل السلاح للدفاع عن أمير المؤمنين عثمان والتصدي للغوغاء المحاصرين لعثمان في داره، فقد ذكر ابن سعد عن نافع أن ابن عمر لبس الدرع يوم الدار مرتين.
ولما قتل عثمان رأى ابن عمر أن الأمة وقعت في محنة، وأن قتل الخليفة بهذه الصورة معصية شؤمها على الأمة خطير، لذا لما عرض عليه الغوغاء الخلافة بعد مقتل عثمان قال: إن لهذا الأمر انتقاماً، والله لا أعترض له فالتمسوا غيري .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما كثيراً ما يركز في نصائحه للعامة على لزوم الجماعة والإعراض عن دماء المسلمين وأموالهم؛ فكتب له رجل: اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافاً لسانك عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعل، والسلام .
جـ. استجابته لكل من دعاه إلى خير، وتعاونه مع أطراف الخلاف فيما يخدم المصلحة:
ورد أنه كان لا يأتي أميراً ـ في زمان الفتنة ـ إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله ، وقيل له: أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء، وبعضهم يقتل بعضاً ؟! فقال: من قال: حي على الصلاة؛ أجبته، ومن قال: حي على الفلاح؛ أجبته، ومن قال: حي على أخيك المسلم وأخذ ماله ؛ قلت: لا .
وكان ابن عمر يتبوأ مكانة رفيعة في الأمة لصحبته لرسول الله ﷺ وعلمه وعبادته وزهده، وكان عبد الله بن محيريز ـ رحمه الله ـ يراه أماناً في الأرض؛ حيث قال: والله إن كنت أعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض .
د ـ إن ابن عمر رضي الله عنهما لم يدعُ إلى وجوب الخضوع المطلق للسلطان:
وكذلك لم يدعُ إلى جواز البيعة القهرية، ولم يوجد في حياته ما يدل على عدم اهتمامه بأمور المسلمين السياسية أو عدم المشاركة فيها، بل على العكس، فهو كان دائماً أحد الأطراف الرئيسة في المعادلة السياسية في العهد الأموي، وكان أسلوبه هو الحوار واللجوء إلى الشورى، والابتعاد عن الاقتتال، وعندما بدأت الانشقاقات تظهر بين المسلمين اختار أن يكون محايداً وأن يعتزل الاقتتال، لا أن يعتزل الحياة السياسية، وكانت محايدته واعتزاله كنوع من التأمل والتفكر والاطلاع على مواقف الفئات المختلفة، والبعد عن المشاركة في سفك الدماء بسبب التصارع على السلطة، مع العمل على تهيئة الظروف، والمناخ السياسي الملائم ليجمع شمل الأمة.
فموقف ابن عمر المحايد كان في البداية بسبب صعوبة تكوين رأي قاطع، فضلاً عن خشية الوقوع في الفتن ، وكان يقول: كففت يدي عن القتال فلم أندم، والمقاتل على الحق أفضل ، وهناك دلائل وحقائق تاريخية تثبت أن ابن عمر عندما رأى ما يقوم به الحجّاج من مظالم عظيمة في الحرم المكي، وسفك الدماء به، والتعدي على حرمته غيّر رأيه في اعتزال الفتنة، بل وندم على أنه لم يقاتل في جيش علي بن أبي طالب ضد معاوية، الذي كان في نظره خارجاً عن شرعية علي وباغياً عليه، فقد روى حبيب بن ثابت: أن ابن عمر عندما حضرته الوفاة قال: ما أجد في نفسي شيئاً إلا أن لم أقاتل الفئة الباغية مع علي ، وقد مرّ معنا قول ابن عمر: ما اسى على شيء من هذه الدنيا إلا على
ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا . قال الذهبي: يعني الحجّاج ، وقد جاء في كتب التاريخ أن ابن عمر كان يرى عبد الله بن الزبير أيضاً يندرج تحت مسمى الفئة الباغية، وأنه ندم على عدم قتاله لخروجه على بني أمية وبغيه عليهم ونكثه لعهدهم ، وهذه الرواية يؤخذ عليها عدة أمور:
ـ أن عبد الله بن عمر لو كان يعتقد بأحقية بني أمية بالخلافة من ابن الزبير في وقت الفتنة لبايعهم، ولكنه لم يفعل، فكيف يندم على عدم قتاله معهم، وهو لم يبايعهم في الأصل؟!.
ـ أن أقوال عبد الله بن عمر الأخرى، التي تؤكد أن الفئة الباغية هي بنو أمية ورجالاتهم وخاصة الحجّاج، كانت اخر أقواله، وهي ما يعتمد عليها، وأسانيدها صحيحة .
إن مواقف ابن عمر السابقة تدحض وتبين ضعف الرأي الذي جعل ابن عمر رائداً لمدرسة الخضوع السياسي للسلطان، وخاصة أن ابن عمر هو الذي روى عن رسول الله ﷺ الحديث: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر في معصية فلا سمع ولا طاعة» ، والحديث يدل على عدم طاعة الحاكم إذا أمر بمعصية، أو خرج عن حكم الله، ولا يمكن لابن عمر أن يخالف حديثاً رواه، وعلى ذلك فإن نظرة ابن عمر تقوم على أن الطاعة للخليفة الشرعي، الذي بويع بالإجماع أو اتفاق الأغلبية، واجبة ما لم يأمر بمعصية، فإن ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته، فإن لم تُجْدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة، ولكنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال، لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة .
10 ـ منهج أهل الحق في ابن الزبير:
قال النووي في شرح مسلم: مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلوماً، وأن الحجّاج ورفقته خارجون عليه. ودخل الحجّاج على أمّه بعد قتله، فقال: كيف رأيتني صنعت بابنكِ؟ فقالت: أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك اخرتك، وقد أخبرنا رسول الله ﷺ: أن في ثقيف مُبيراً وكذّاباً، فأمّا الكذّاب فرأيناه ـ يعني المختار ـ وأما المبير ، فلا إخالك إلا إياه .
11 ـ هدم الكعبة وبنائها في عهد ابن الزبير:
في سنة 64 هـ هدم ابن الزبير الكعبة وكانت قد مال حيطانها ، وتهدمت، وتشعّثت من حجر المنجنيق الذي كان يرمي به الحصين بن نمير وأصحابه ، ولما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله وعبيد بن عمير بذلك، وقال ابن عباس: أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن أرى أن تصلح ما وَهِيَ منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً بُعِث رسول الله ﷺ عليها. فقال ابن الزبير: لو احترق بيت أحدكم ما رَضي حتى يُجَدِّده، فكيف ببيت ربِّكم؟! .
ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام ، ثم عزم في اليوم الرابع على ذلك، ففرقت الناس وخرج بعضهم هارباً إلى الطائف وإلى عرفات ومنى، وطلع ابن الزبير بنفسه واتخذ معه عبداً حبشياً دقيق السّاقين رجاء أن يكون ذا السُّويقتين الحبشي الذي يهدم الكعبة ، فبدأ ينقض الرُّكن إلى الأساس، فلمّا وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلاً بالحجر مشبكاً كأصبع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً وأشهدهم على ذلك، ثم بنى البيت وأدخل الحجر فيه ، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه، وباب يُخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده وشدَّه بفضة، لأنه كان قد تصدّع، وجعل طول الكعبة سبعة وعشرين ذراعاً، وكان طولها سبعة عشر ذراعاً فاستقصروه، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك، وسترها بالدِّيباج، ثم اعتمر من مساجد عائشة ، وطاف بالبيت، وصلَّى وسعى وأزال ما كان حول البيت وفي المسجد من الحجارة والزّبالة، وما كان حولها من الدماء.
وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق واسوَدَّ الركن، وانصدع الحجر الأسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسُّنن من طرق، عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله ﷺ قال: «لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصَّرت بهم النَّفقةُ، ولجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الاخر، ولألصقت بابها بالأرض، فإن قومَك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا» ، فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين، عن رسول الله ﷺ، فجزاه الله خيراً، ثم لما غلبه الحجّاج بن يوسف في سنة 73هـ وقتله وصلبه هدم الحائط الشمالي، وأخرج الحجر كما كان أولاً، وأدخل الحجارة التي هدمها إلى جوف الكعبة فرضَّها فيها، فارتفع البابُ، وسدَّ الغربيَّ وتلك اثاره إلى الان، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان له في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلمّا بلغه الحديث بعد ذلك قال: وددنا أنّا تركناه، وما تولى من ذلك .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022