من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(ضم العراق والقضاء على مصعب بن الزبير)
الحلقة: 103
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
بعد أن استعاد ابن الزبير نفوذه على العراق أصبحت المواجهة محتومة بينه وبين عبد الملك، الذي قرر أن يقود المعركة بنفسه بعد أن شاور خاصته في ذلك، فمنهم من أشار عليه أن يقيم في الشام، ويرسل واحداً من أهله ليقود الجيش، ومنهم من أشار عليه بأن يسير بنفسه، فمال هو على هذا الرأي. وقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن احتجْتُ إليه، ومصعب شجاع من بيت شجاعة، ولكنه لا علم له بالحرب.. ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي .
عزم عبد الملك إذن على السير إلى العراق لانتزاعه من ابن الزبير، وكان ذلك في سنة 71 هـ، أي: بعد أربع سنين من القضاء على المختار، ولعله أخر الصدام مع ابن الزبير إلى هذا الوقت متعمداً، فهو لم يشأ أن يسير إلى العراق إلا بعد أن يوطد دعائم حكمه في الشام، فقضى هذه السنين في تحقيق هذا الهدف؛ فقد حل مشاكله مع زفر بن الحارث الكلابي الذي كان معتصماً في قرقيسية ، مهدداً بذلك إقليم الجزيرة كله، وقد عالج عبد الملك مشكلة زفر بالحكمة والسياسة، واصطلح معه، وأنهى بذلك مسألة قرقيسياء التي استمرت حوالي سبع سنين كالشوكة في جنب دولته، وأحكم سيطرته على إقليم الجزيرة ، ثم تخلص من منافسه الخطير، وهو عمرو بن سعيد الأشدق ، ولما أراد الخروج للعراق ودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثير عزة لكأنه يشاهدنا حين قال:
إذا ما أرادَ الغزوَ لم يَثْنِ هَمَّهُ
حَصَانٌ عليها عِقدُ دُرٍّ يزينُهَا
نهتْه فلمَّا لم ترَ النّهيَ عَاقَهُ
بكتْ وبكى ممّا عَنَاها قطينُهَا
وسارع عبد الملك إلى العراق بجيشه، وجعل على مقدمته أخاه محمد بن مروان، ونزل بمسكن وكان مصعب قد علم بمسيره، ونزل بمسكن مقدمته إبراهيم بن الأشتر، ونزل باجميرا ، وأخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق من جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، وكان إبراهيم بن الأشتر قائد جيوش المختار الثقفي قد انضم إلى مصعب بعد مقتل المختار، قد كتب إليه عبد الملك أيضاً، فأخذ الكتاب مختوماً ودفعه إلى مصعب، فقال له: ما فيه ؟ فقال له: ما قرأته. فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد ايس منه مني، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم، قال: إذاً لا تنصحنا عشائرهم، قال: فأوقرهم حديداً، وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هناك، ووكل بهم على عشائرهم، فقال: يا أبا النعمان إني لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر ـ الأحنف بن قيس ـ إنه كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه ينظر إلى ما نحن فيه .
وهذا ليس غريباً على أهل العراق، فلهم في الغدر وتغيير المواقف سجل حافل. بل لقد صرح عبد الملك بأن كتبهم كانت تأتيه يدعونه إليهم قبل أن يكتب هو إليهم . ولم يكن هذا خافياً في معسكر مصعب، فعندما استدعى المهلب بن أبي صفرة ـ وكان من رجاله في ذلك الوقت ـ يستشيره، قال له: اعلم أن أهل العراق قد كتبوا عبد الملك وكاتبهم، فلا تبعدني عنك. فقال له مصعب: إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره إذا سار عبد الملك إليّ أن لا أسير إليه، فاكفني هذا الثغر .
في الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق من قواد مصعب، والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إليه . كان حريصاً على ألا يقاتل مصعباً، للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما، فأرسل إليه رجلاً من كلب، وقال له: أقرأى ابن أختك السلام ـ وكانت أم مصعب كلبية ـ وقل له يدع دعاءه إلى أخيه، وأدع دعائي إلى نفسي، ويجعل الأمر شورى، فقال له مصعب: قل له: السيف بيننا .
ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمد ليقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً .
ثم دارت المعركة فبدأت خيانات أهل العراق تظهر، فقد أمد مصعب إبراهيم بن الأشتر بعتاب بن ورقاء، وهو من الذين كانوا كاتبوا عبد الملك، فاستاء إبراهيم من ذلك وقال: قد قلت له: لا تمدني بعتاب وضربائه، إنا لله وإنا إليه راجعون، فانهزم عتاب بالناس. فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقتل ، فكان مقتله خسارة كبرى لمصعب، لأنه فوق شجاعته، كان مخلصاً له غاية الإخلاص، ولذلك لما اشتد القتال على مصعب وتحرج موقفه صاح قائلاً: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم ، تخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه، حتى لم يبق معه سوى سبعة رجال ، ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة، حتى أثخنته الجراح، وأخيراً قتله زياد بن ظبيان. وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق في جمادى الاخرة سنة72 هـ. فلما بلغ عبد الملك مقتله قال: واروه، فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا الملك عقيم .
وبمقتل مصعب انتهت المعركة، فدخل عبد الملك الكوفة، وبايعه أهلها، وعادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية. وعين عبد الملك أخاه بشراً والياً عليها، وقبل أن يغادرها أعد جيشاً للقضاء على ابن الزبير بمكة.
1 ـ أسباب هزيمة مصعب بن الزبير:
هناك أسباب كثيرة ساهمت في هزيمة مصعب بن الزبير؛ منها:
أ ـ عدم اشتراك المهلب بن أبي صفرة، ومن معه من الجنود، وهو المقاتل العنيد والخبير في شؤون الحرب، وإصرار مصعب بن الزبير على بقائه في قتال الخوارج بناء على رغبة أهل البصرة، علماً بأن المهلب قال: لا تبعدني عنك، ولو لم يبعد مصعب المهلب لتمَّ الاستفادة من جيشه ومن قدرة وخبرة هذا القائد.
ب ـ خيانة قادة الفصائل من الجيش الزبيري من العراقيين بناء على الأماني التي مناهم إياها عبد الملك، وعدم قدرة مصعب على ثنيهم بعد اكتشاف خيانتهم.
جـ. عدم إغداق أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الأموال، والأعطيات على أعيان وأشراف أهل العراق لما جاؤوا إلى مكة مع مصعب.
د ـ غضب بعض الشيعة لمقتل المختار، فلقد رأوا في المختار بأنه هو الذي انتقم من قتلة الحسين، بحيث لم يترك أحداً، ولهذا عبّر زائدة بن قدامة عندما طعن مصعب وقال: يا لثارات المختار .
هـ. قلة الخبرة العسكرية لدى مصعب على الرغم من شجاعته وإقدامه وبطولته التي اعترف بها خصمه.
و ـ إنهاك جيش الزبيريين؛ فقد خاضوا معارك عدة في العراق، بينما كان جيش الأمويين مرتاحاً، فلما رأوا جنود خصمهم تواكلوا وشملهم الرعب .
ز ـ عدم مد الخليفة عبد الله بن الزبير لأخيه بالقوات والجند، وكان الأجدر به أن يمده بكل ما يستطيع، لأن ضياع العراق من يديه يعني فقدان الموارد المالية وبداية الانهيار السياسي .
2 ـ أثر مقتل مصعب على ابن الزبير وخطبته:
ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب، قام فخطب في الناس، فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ألا إنه لن يُذلَّ الله من كان الحق معه، وإن كان فرداً، ولم يعز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طُرّاً، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب ـ رحمه الله ـ، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أنه قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذوي الرأي إلى جميل الصبر، وكريم العزاء، ولئن أصبتم بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعبٌ إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني، إلا أن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصاً بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا اخذها أخذ الأشِر البَطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحَرِقَ المَهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
3 ـ رأي عبد الملك في مصعب بن الزبير:
لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك، بكى وقال: ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم . لقد نسي عبد الملك كل ما كان بينه وبين مصعب، ولم يذكر إلا الكرسي وسلطة الحكم، حتى إذا ما تم له الأمر، وخلص له الحكم، أخذ يتحدث عمَّا كان بينهما من المودة والخُلة، وراح يذكر محاسنه في مجالسه، وهو يعلم أن ذلك لن يضر ملكه شيئاً .
روى ابن كثير: أن عبد الملك قال يوماً لجلسائه: من أشجع العرب ؟ قالوا: شبيب، قطري بن الفجاءة، فلان، فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كُريز، وأمّه رباب بنت أُنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين، فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى، ومشى بسيفه حتى مات؛ ذلك مصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرّة هاهنا .
إن مدح مصعب الان لا يضر عبد الملك شيئاً، فقد مضى إلى ربه، وترك له الدنيا بزخارفها، فهو الان، وبعد أن لم يعد مصعب يشكل خطراً على ملك عبد الملك، فلا بأس بأن يذكر محاسنه، ولا بأس بأن يؤبنه، ولهذا لما جيء برأس مصعب إلى عبد الملك قال: واروه، فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا الملك عقيم، وأمر به وابنه عيسى فدفنا .
4 ـ ما قيل من رثاء في مصعب بن الزبير:
اشتهر عبيد الله بن قيس الرقيات بالدفاع عن الحركة الزبيرية وكان شاعرها الأول، ومما قاله في رثاء مصعب بن الزبير:
نَعَتِ السحائِبُ والغمامُ بأسْرِها
جَسَداً بمسكِن عاريَ الأوصالِ
تُمسي عوائدَه السِّباعُ ودارُه
بمنازلٍ أطلالُهُنَّ بَوَالي
رَحَلَ الرِّفاقُ وغادروه ثاوياً
للرِّيحِ بين صَباً وبين شمالِ
5 ـ سكينة بنت الحسين زوجة مصعب بن الزبير:
كتب مصعب إلى زوجته سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب بعد خروجه من الكوفة بليال:
وكانَ عزيزاً أن أبيتَ وبينَنَا
حجابٌ فقد أصبحتِ مني على عَشْرِ
وأبكاهما للعينِ واللهِ فاعلمي
إذا ازددتُ مثليها فصرتُ على شهرِ
وأبكي لقلبي منهما أنني
أخافُ بأن لا نلتقي اخرَ الدَّهْرِ
وقيل: دخل مصعب على سكينة يوم قتل، فنزع ثيابه، ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت: واحزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها عنه، فقال: أوكل هذا لي في قلبك؟ قالت: وما أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم هذا كانت لي ولك حال، ثم خرج فلم يرجع، ولما قتل مصعب خرجت سكينة تطلبه في القتلى فعرفته بشامة في خده، فأكبت عليه وقالت: يرحمك الله، نعم والله خليل المسلمة كنت أدرك والله ما قال عنترة:
وحليلُ غانيةٍ تُرِكتَ مجندلاً
بالقاعِ لمْ يعهدْ ولَمْ يتكلَّمِ
فهتكتُ بالرمحِ الطويلِ إهابَهُ
ليسَ الكريمُ على القَنَا بمحرَّمِ
وقالت سكينة في رثاء مصعب:
فإنْ تقتلوه تقتلوا الماجدَ الذي
يرى الموتَ إلا بالسيوفِ حراما
وقبلك ما خاض الحسينُ منيةً
إلى القومِ حتَّى أوردوه حِمَاما
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: