الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

نشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها، وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها، واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة، ساندت المؤسسة العسكرية التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب.

واستطاع علماء الصحابة الذين تفرغوا لدعوة الناس وتربيتهم أن ينشئوا جيلاً من العارفين للدين الإسلامي من أبناء المناطق المفتوحة، وقد استطاعوا أن يتغلبوا على مشكلة إعاقة الحاجز اللغوي، بل تعلم الكثير من الأعاجم لغة الإسلام، وأصبح كثير من رواد حركة العلم بعد عصر الصحابة من العجم.

لقد أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة، وشكلت جيلاً من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة، وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله (ﷺ). ويرجع الفضل في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى -بعد الله- إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبصرة والكوفة وغيرها من الأقطار [ابن حجر، تهذيب التهذيب (6/186)].

وقد استمرت مدارس التابعين في النشاط العلمي في عهد الدولة الأموية، وكثير من العلماء الذين تخرجوا من تلك المدارس أعانوا عمر بن عبد العزيز على مشروعه الإصلاحي التجديدي الراشدي المنضبط بمنهاج النبوة، ومن أهم تلك المدارس:

 

مدرسة الشام

تأسست في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأشهر مؤسسيها من الصحابة: معاذ بن جبل، أبو الدرداء، عبادة بن الصامت رضي الله عنهم، وحمل التابعون الراية العلمية والتربوية والدعوية بعد الصحابة؛ ومن أشهرهم:

  • الإمام الفقيه أبو إدريس الخولاني عائذ بن عبد الله

قاضي دمشق وعالمها، روى عن أبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس، وخلق غيرهم، كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء قال: أدركت أبا الدرداء ووعيت عنه، عبادة بن الصامت، شداد بن أوس، ووعيت عنهما [عبد الله الخرعان، أثر العلماء في الحياة السياسية، ص 201].

  • الفقيه قبيصة بن ذؤيب الدمشقي

روى عن عمر بن الخطاب وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف، وخلق غيرهم. كان قبيصة من علماء التابعين ثقة مأموناً كثير الحديث، قال الشعبي: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. قال عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة، وعن ابن شهاب، قال: كان قبيصة بن ذؤيب من علماء هذه الأمة، توفي سنة 86 هـ، وقيل: 87 هـ، وقيل: 88 هـ. وقد توسعت في ترجمته عند حديثي عن عبد الملك.

 

المدرسة المكية

احتلَّت هذه المدرسة المكانة في قلوب المؤمنين، الساكنين والثائبين على بلد الله الحرام، الحجاج والعمار والزوار، بل أخذت مكة بألباب كل مؤمن رآها أو تمنَّى أن يراها، ولقد كان العلم بمكة يسير زمن الصحابة، ثم كثر أواخر عصرهم وكذلك أيام التابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيح، ابن جريج، إلا أن مكة اختصت زمن التابعين بحبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما الذي صرف جل همه، وغاية وسعه إلى علم التفسير، وربى أصحابه على ذلك، فنبغ منهم أئمة كان لهم قصب السبق بين تلاميذ المدارس في التفسير. وقد ذكر العلماء مجموعة من الأسباب أدت إلى تفوق المدرسة المكية في هذا العلم، وأهم هذه الأسباب والأساس فيها: إمامة ابن عباس رضي الله عنهما وأستاذيته لها. ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة المكية:

  • مجاهد بن جبر المكي

أخذ الفقه والتفسير عن ابن عباس وغيره من الصحابة، كان فقيهاً عالماً ثقة من أوعية العلم، وعن مجاهد قال: عرضت القرآن 3 عرضات على ابن عباس، أَقِفُه عند كل آية، أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد، وقال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني، وقدم مجاهد على سليمان بن عبد الملك، ثم على عمر بن عبد العزيز، وشهد وفاته.

  • عكرمة مولى ابن عباس

كان مكياً تابعياً ثقة من أعلم التابعين، روى عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وابن عمر، ابن عمرو، عقبة بن عامر، علي بن أبي طالب [سير أعلام النبلاء، (4/454)]، قال: طلبت العلم 40 سنة، وكنت أفتي بالباب وابن عباس بالدار. وعن عكرمة: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال له: انطلق فأفتِ الناس وأنا لك عون، قلت: لو أن هؤلاء الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم. قال ابن عباس: انطلق فأفتهم، فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مؤونة الناس.

 

المدرسة البصرية

وهي منافسة للكوفة في كل الفنون، وقد نزلها من الصحابة جمع كثير، منهم: أبو موسى الأشعري، عمران بن حصين، أنس بن مالك، وغيرهم. ويعتبر أنس بن مالك رضي الله عنه شيخ السادة من علماء التابعين؛ أمثال: الحسن البصري، سليمان التيمي، ثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، إبراهيم بن أبي ميسرة، محمد بن سيرين، قتادة، وغيرهم من أشهر علماء المدرسة البصرية.

  • محمد بن سيرين البصري

كان مولى أنس بن مالك، سمع من ابن عباس، ابن عمر، أبي هريرة، وخلق سواهم. وعن حبيب بن الشهيد قال: كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاوس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله، وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء من ابن سيرين [سير أعلام النبلاء (5/31)].

  • قتادة بن دعامة السدوسي

كان من أوعية العلم، روى عن بعض الصحابة وكبار التابعين، وكان ثقة حجة في الحديث. قال عنه أحمد بن حنبل: كان قتادة عالماً بالتفسير وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ، وقال: قلما تجد من يتقدمه. وقال: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه؛ قرئت عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها.

 

المدرسة الكوفية

نزل الكوفة 300 من أصحاب الشجرة، و70 من أهل بدر، رضي الله عنهم أجمعين، وقد اهتم عمر بالكوفة، ووجه إليها عبد الله بن مسعود، واجتهد ابن مسعود في إيجاد جيل يحمل دعوة الله فهماً وعلماً، وكان له الأثر البالغ في نفوس الملازمين له، أو من جاء بعدهم، وقد اشتهر مجموعة من تلاميذ ابن مسعود بالفقه والعلم والزهد والتقوى، منهم: علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، عبيدة السلماني، الأسود بن يزيد، مرة الجعفي، وغيرهم [سير أعلام النبلاء (4/276)]. ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة الكوفية:

  • عامر بن شرحبيل الشعبي

كان علامة عصره ومن أفقههم، روى عن عائشة، ابن عمر، سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن عمر، وجمهرة غيرهم، حتى قيل: إنه أدرك 500 من الصحابة، لذلك كان صاحب آثار كثير العلم والفقه. قال محمد بن سيرين: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون بالكوفة، ورغم هذا العلم الواسع فقد كان ينقبض عند الفتوى، وكثيراً ما يقول: لا أدري، لأنه كان يعتبرها نصف العلم.

  • حمّاد بن أبي سلمة

فقيه أهل العراق، روى عن أنس بن مالك، وتتلمذ على يدي إبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة. وكان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمُّل، وكان أفقه أهل الكوفة عليّ وابن مسعود، وأفقه أصحابها علقمة، وكان أفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي رحمهم الله تعالى. وقد توفي حماد سنة عشرين ومئة [سير أعلام النبلاء (4/303)].

 

المدرسة اليمنية

من أشهر علمائها من الصحابة الذين ساهموا في دخول الإسلام فيها: معاذ بن جبل، علي بن أبي طالب، أبو موسى الأشعري، وغيرهم..

  • طاوس بن كيسان

فقيه أهل اليمن وقدوتهم، وأعلمهم بالحلال والحرام، من سادات التابعين، روى عن ثلة من الصحابة الكرام، كزيد بن ثابت وأبي هريرة، زيد بن أرقم، ابن عباس، وهو معدود من كبراء أصحابه. وروى عن معاذ مرسلاً. كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له، كان فقيهاً جليلاً بركة لأهل اليمن. أدرك 50 من أصحاب رسول الله (ﷺ). قال له عمر بن عبد العزيز في عهد سليمان: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين. قال: ما لي إليه حاجة؛ فكأن عمر عجب من ذلك [سير أعلام النبلاء (4/231)].

 

المدرسة المصرية

تكونت في مصر مدرسة كان شيوخها من الصحابة الذين رحلوا إليها أيام الفتح ونزلوا في موضع الفسطاط والإسكندرية، ومن هؤلاء: عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو بن العاص، الزبير بن العوام، وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في مصر عقبة بن عامر رضي الله عنه، وغير ذلك من الصحابة يرجع إليهم الفضل في دعوة الناس وتوجيههم نحو دينهم. وجاءت طبقة التابعين، وكان منهم أئمة ودعاة، ومن هؤلاء:

  • يزيد بن أبي حبيب

الإمام الحجة، مفتي الديار المصرية، أبو رجاء الأزدي، كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى مع كونه مولى أسود. قال عنه الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا. توفي سنة ثمانٍ وعشرين ومئة [سير أعلام النبلاء (4/556)].

ومن خلال ما سبق من الحديث عن المدارس العلمية، تظهر أهمية توريث العلم والخبرات الدعوية عند السلف، وامتداد ذلك يشمل أقاليم الدولة الإسلامية، ونستفيد أيضاً أهمية تفريغ مجموعة من أذكياء الأمة للتعلم والتعليم والإفتاء والإرشاد والوعظ ونشره بين الناس.

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022