(مسألة الألقاب في العلاقات السلجوقية العباسية)
من كتاب دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 53
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1442 ه/ أغسطس 2021
تجاوز السلاطين السلاجقة الحدَّ في اتخاذهم الألقاب التي تعكس قوتهم وسلطانهم من جهة، وضعف الخلافة من جهة أخرى، فنقشت ألقابهم على السكة، وكتبت في المخاطبات ؛ فعند دخول طغرل بك بغداد لقبه الخليفة القائم بلقب ركن الدولة، يمين أمير المؤمنين ، ثم تلقب بلقب ملك المشرق والمغرب ، وتلقبَ السلطان ألب أرسلان بلقب عضد الدولة برهان أمير المؤمنين ، وبعد موقعة ملاذكرد سنة (463 هـ) التي انتصر فيها السلاجقة على الروم، وأسروا الإمبراطور رومانوس، ذكره الخليفة القائم بخطاب التهنئة (الولد السيد الأجل) المؤيد المنصور المظفر، السلطان الأعظم مالك العرب والعجم، سيد ملوك الأمم، ضياء الدين، غياث المسلمين، ظهير الإيمان، كهف الأنام، عضد الدولة القاهرة، تاج الملة الباهرة، سلطان ديار المسلمين، برهان أمير المؤمنين ، وعرف السلطان ملكشاه بن أرسلان بلقب السلطان معز الدنيا والدين، وسلطتها، وفكروا في تشكيل جيش الدولة الخاص بها، لتتمكن من خوض صراعها ضد المتغلبين عليها، وبما أن الجيش يشكل خطراً على سيطرة المتغلبين، فقد سعى السلاجقة إلى حرمان الخلافة من هذه القوة، لذا امتازت الفترةُ (447 ـ 512 هـ) والتي حكم فيها ثلاثة من الخلفاء هم (القائم بأمر الله، والمقتدي لأمر الله، والمستظهر بالله) بالخضوع التام لسلاطين السلاجقة ونوابهم في بغداد، حتى تقلد المسترشد بالله الخلافة سنة (512 هـ) ، فكان أول خليفة في هذه الفترة يتنبه لضرورة تكوين جيش خاص بالخلافة مستغلاً ضعفَ السلاجقة ونزاعهم على السلطنة بعد وفاة السلطان ملكشاه ، فبعد أن انفرد السلطان محمد بن ملكشاه بالحكم (498 ـ 511هـ) نشب النزاع بين ورثته بعد وفاته، على الرغم من أن الخلافة سمحت بالخطبة لسلطانين في آنٍ واحد ، غير أن الخليفة المسترشد حاول أن يستفيدَ من الصراع القائم بين العائلة السلجوقية على السلطنة، فاستعان في بداية الأمر بجيش السلطنة في بغداد وقوات بني عقيل، ودعا إلى الجهاد لملاقاة دبيس بن صدقة المزيدي صاحب الحلة، وتمكن من القضاء على نفوذه .
ثم استغنى عن الوزير السلجوقي وطلب نقل الشحنة من بغداد ، كما استطاع الوقوف بوجه السلطان طغرل ودبيس بن صدقة وانتصر عليهم، وفي هذه الأثناء كان المسترشد قد أمر وزيرهُ بإعادة ديوان الجند، وتسجيل العرب والأكراد والأتراك في الديوان، وابتدأ في شراء المماليك الأتراك وأمر بتدريبهم على فنون القتال ، وعقد محالفات مع أمراء الأطراف العربية والكردية، وتقرب من العامة، وأمر بإعلان النفير العام للتجنيد ، حتى بلغ جيشهُ سنة (525 هـ) ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد .
وتبين من كتاب السلطان سنجر الذي أرسلهُ إلى السلطان محمود مدى خشية السلاجقة من هذا الجيش، حين كتب إليهِ يقول: إن الخليفة قد عزم على أن يمكر بي وبك، فإذا اتفقتما علي فرغ مني وعادَ إليك.. ويجب بعد هذا أن تمضي إلى بغداد ومعكَ العساكر فتقبض على وزير الخليفة، وتقتل الأكراد الذين دونهم، وتأخذ النزل الذي قد عمله وجميع الة السفر، وتقول: أنا سيفك وخادمك .
وعندما علم المسترشد بقدوم السلطان محمود إلى بغداد عزم على مواجهته، وقال: فوضنا أمورنا إلى آل سلجوق، فبغوا علينا، فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون .
فاستعد الخليفة للمواجهة وعبر بالناس إلى الجانب الغربي من بغداد، ثم عبر إلى الجانب الشرقي، حيث نزل السلاجقة وأرغمهم على الخروج من بغداد، إلا أن الخليفةَ أذعن لشروط الصلح مع السلطان محمود، بعد أن خذلهُ أصحابه من الأمراء ، فسلم الخليفةُ وقبل بشروط في عدم تجهيز الجيوش، وتدوين العسكر، وما لبثت الأمور أن جاءت لصالح الخليفة، حيث خرج على السلطان محمود أخوه مسعود، وعمه سنجر، وعدد من الأمراء، فرحل السلطان محمود عن بغداد فبعث إليهِ المسترشد، يقول له: إنك تعلم ما بيني وبينكَ من العهد واليمين، وإني لا أخرج، ولا أدوِّن عسكراً، وإذا خرجت عاد العدو وملك الحلة، وربما تجدد منه ما تعلم، فكتب إليه السلطان محمود قائلاً: متى رحلت عن العراق وجدت له حركة، وخفت على نفسك، وعلى المسلمين، وتجدد لي أمر مع أخي، فلم أقدر على المجيء، فقد نزلت عن اليمين التي بيننا، فمهما رأيت من المصلحة فافعله .
فشرع المسترشـد بتعبئة الجند استعداداً لمد نفوذ الخلافة، وخرج بنفسه يقود الجيش، ويباشر القتال ، واستطاع أن يصد جيوش عماد الدين زنكي، ودبيس بن صدقة الذين توجهوا إلى بغداد ، وحاصر الموصل، وأخضع تكريت لسلطان الخلافة ، إلا أن صحوة الخلافة ونهضتها بعدَ طول سيطرة وتصميم على التخلص نهائياً من سيطرة السلاجقة، جعل المسترشد أكثر اندفاعاً دون أن يستكمل قوته ويستغل الظروف الملائمة، وكان لإصراره على الخروج من بغداد لملاقاةِ السلطان مسعود دون أن يلتفت لنصيحة خاصته، ومستشاريهِ في البقاء في بغداد أثر في تفكك جيش الخلافة بعد أن تخاذل بعض القادة الأتراك، وانضموا إلى السلطان مسعود، فلم يبق مع الخليفة سوى من تبعه من أهل بغداد، مما سهل على السلاجقة أسره، واشترط عليهِ على مالٍ يؤديه، وأن لا يعود إلى جمع العساكر، ولا يخرج من داره .
ثم قتل كما بينا سابقاً، وتولى الخلافة بعد مقتل المسترشد ابنهُ أبو جعفر الملقب بالراشد ، وحدد السلطان مسعود مسؤوليات الخليفة، بقوله: لا أريد أن يجلس إلا من لا يداخل نفسه في غير أمور الدين، ولا يجند، ولا يتخذ، ولا يجمع عليَّ، ولا على أهل بيتي ، لذا اشترط على الخليفة الراشد أن لا يقوم بتجنيد الجند، أو الخروج لحرب السلطان، أو أحد أصحابه، ومتى فعل ذلكَ؛ فقد خلع نفسه ، وانتهى أمرُ الراشد إلى ما قد علمنا.
يمكنكم تحميل كتاب دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي