تأملات في الأية الكريمة:
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى...}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 164
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1444ه/ ديسمبر 2022م
إن إبراهيم - عليه السّلام - الشيخ المقطوع من الأهل والقرابة، والمهاجر من الأرض والوطن، ها هو يُرزق في كبرته وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه، جاء غلاماً يشهد له ربّه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنّها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا؟ إنه لا يتردد ولا يخالجه إلا شعور بالطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم، هذا ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟ ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا، إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه، وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء واطمئنان عجيب(1).
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، هي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن الذي لا يهوله الأمر، فيؤذيه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ويستريح من ثقله على أعصابه.
والأمر شاقٌّ وصعب - ما في ذلك شكّ- فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه - وهو- مع هذا يتلقّى الأمر هذا التلقّي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أني يتروّى في أمره، وأن يرى فيه رأيه، إنه لا يأخذ ابنه على غرّة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه، كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا ربه يريد، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر، ويتذوق حلاوة التسليم، إنّه يحبُّ لابنه لذّة التطوع التي ذاقها، وأن ينالَ الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى(2).
أ- {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}:
نستشعر في هذه الآية مدى الصحبة القوية بين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام -، فلفظ {مَعَهُ} مقترناً بلفظ {السَّعْيَ}، وما يحمل من دلالات الحركة والعمل المشترك، كل ذلك يوحي بمعاني المرافقة والمعاونة والاندماج العاطفي بينهما.
إنَّ هذا الأسلوب في التعامل له دور كبير في إزالة الحواجز بين الآباء والأبناء، فيشعر الابن بقرب الأب منه والعكس، فيشاركه أحلامه وتطلعاته، ويفضي إليه بهمومه ومشكلاته، إننا أمام شخصية ترسم معالم الطريقة التربوية السليمة في التعامل مع الأبناء في مرحلة المراهقة، وما يكتنفها من مخاطر ومصاعب، وما ينتابها من مشاعر متباينة في عقول الآباء ونظراتهم، وهي السنّ الخطرة التي ينبغي أن يكون الأب فيها قريباً من الابن، ولن يكون ذلك إلا بالمصاحبة والمعايشة والرفقة ورفع الكلفة بين الاثنين.
ونلاحظ أن لفظ {مَعَهُ} يضيف إلى معنى الحبّ والعطف شيئاً آخر، وهو انتفاع الأب في المعيشة والسعي، فقد يجمع عليه أمرين بالغي الإيلام هما: فجيعة فقده، ثم انقطاع نفعه وعونه(3).
لقد أصبح إسماعيل - عليه السّلام - شاباً راشداً يسعى مع أبيه في الدعوة إلى الله، ويسعى معه في إرشاد الخلق إلى الله عزّ وجل، ويسعى معه في شؤون الحياة العامة.
ب- {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}:
- {يَا بُنَيَّ}: استخدم إبراهيم - عليه السّلام - في خطابه لولده تعبير {يَا بُنَيَّ}، وهو التعبير الذي جاء ليبرز معنى النبوّة مصحوبة بالنداء والتصغير الدال على التحبب لما في هذا التعبير - في هذا الموقف- من الوقع البالغ التأثير، وكأن إبراهيم قبل أن يعرض على ولده هذا الأمر الفظيع، أراد أن ينبهه إلى أنه ليس قاسياً ولا مجرداً من الرّحمة، ولكن شيئاً أقوى من هذا هو الذي جعله يعزم على ما يعزم عليه الآن، هذا الشيء هو استجابته لإرادة ربه.
ونستفيد من هذا الموقف ضرورة التمهيد بكلام طيّب قبل طرح الموضوعات الصعبة والخطيرة، يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: إذا اضطررت إلى الإخبار عن أمر مكروه، أو وقوع حادث مُفجع، أو وفاة قريب أو عزيز على صاحبك أو قريبك أو ما شابه ذلك، فيحسن بك أن تُلطّف وقع الخبر على من تخبره به، وتمهّد له تمهيداً يخفّف نزول المصاب عليه، فتقول فيمن تُخبر عن وفاته مثلاً: بلغني أن فلاناً كان مريضاً مرضاً شديداً، وزادت حاله شدة، وسمعت أنه توفّي رحمه الله تعالى(4).
- {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}: استخدم إبراهيم - عليه السّلام - الفعل المضارع {أَرَى} دون رأيت؛ ليوحي إلى ابنه بحضور هذه الرؤيا حين كلامه، فإن لفظ المضارع يدلُّ على تكرار الرؤيا كما يقول البيضاوي والألوسي، وورد عن مقاتل أنه قال: رأى ذلك إبراهيم - عليه السّلام - وثلاث ليالٍ متتابعات، وأيّاً كان عدد المرات، فإن المضارع يدلُّ على الحال المستمر، فكأن إبراهيم يقول لابنه: إنه يا بني أمر لازم واضح، ماثل في نفسي، كأني أراه الآن، وفي هذا شيء كأنه الاعتذار من إبراهيم لابنه- عليهما السّلام -، بأنه إنما يقدم على ما يُقدم عليه؛ لأنه أمام أمر قوي غالب مسيطر(5).
ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، فإنّ الأنبياء - عليهم السّلام - تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم كما في الحديث الشريف، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: جاءه ثلاثة نفر قبل أن يُوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم.. والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائمة عيناه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم(6).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات، فلا نسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم أربعاً، فلا نسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يُصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني، ولا ينام قلبي(7).
ولا شكَّ أنَّ التكليف بالذبح بواسطة الوحي أثناء النوم، أكمل في الابتلاء من التكليف باليقظة، وقد أظهر الله سبحانه وتعالى به المزيد من فضل إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - في قضية الذبح والفداء، واستسلامهما وإذعانهما للتكليف الإلهي(8).
ج- {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}:
بعد أن عرض إبراهيم الموضوع على ولده خاطبه قائلاً: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، فشاوره بذلك مع أنه أمر الله الذي يجب تنفيذه؛ لأن في هذه المشاورة إعلاماً له ما رآه، لكي يتقبله بثبات وصبر، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون، وليختبر عزمه وجَلده، ويعلم إبراهيم - عليه السّلام - مدى التزام ولده بشرع الله، ويعلم أنه لا يمكن أن يتراجع عن الانقياد لأمر طلبه الله عزّ وجل، لذا فإنه يعرض الموضوع على ولده في صيغة المشاورة لا في صيغة الأمر، وهذا من أدب إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام(9).
وقد دلّت هذه المشورة أيضاً على ثقته - عليه السّلام - بولده، وحسن ظنه به، وأنه سيكون عوناً له تنفيذ أمر الله تعالى، وتحقّق ما كان يرجوه إبراهيم من ولده عليهما الصلاة والسلام(10).
مراجع الحلقة الرابعة والستون بعد المائة:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/5995).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/5995).
(3) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص133.
(4) أدب الكلام وأثره في بناء العلاقات الإنسانية في ضوء القرآن الكريم، د. عودة عبد عودة عبد الله، ص327.
(5) المرجع نفسه، ص328.
(6) صحيح البخاري، رقم (3570).
(7) صحيح البخاري، رقم (3569).
(8) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (7/160).
(9) أدب الكلام وأثره في بناء العلاقات الإنسانية في ضوء القرآن الكريم، ص328.
(0 ) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (7/160).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي