تأملات في الآيات الكريمة:
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (*) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (*) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (*) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (*) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (*) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (*)}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 174
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
1. قوله تعالى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ}:
هو مذكور على توالي الأجيال والقرون، وهو أمة، وهو أبو الأنبياء، وهو أبو هذه الأمة المسلمة، وهي وارثة ملّته، وقد كتب الله تعالى لها وعليها قيادة البشرية على ملّة إبراهيم - عليه السّلام -، فجعلها الله لها عقباً ونسباً إلى يوم الدين(1).
قال الشيخ مصطفى العدوي: وتركنا على إبراهيم ثناءً حسناً في الأمم التي جاءت من بعد، فالأمم التي جاءت من بعده تثني عليه - عليه السّلام -، بل واليهود ينسبونه إليهم والنصارى كذلك، وقد قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ]آل عمران:67[.
ولعل هذا الثناء، والله تعالى أعلم، إنما هو إجابة لدعوة إبراهيم - عليه السّلام - إذ دعا قائلاً: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ}، هذا ومن صور هذا الثناء الحسن ذكره المتكرر في الكتاب العزيز في معرض الثناء عليه، وكذا ذكرنا له في صلاتنا، فنصلي عليه في كل صلاة نصلّيها، وندعو الله تعالى أن يبارك عليه وعلى آله أجمعين، وكذا نذكره في أذكار الصباح والمساء(2).
2. قوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}:
لما صبر سيدنا إبراهيم - عليه السّلام - واستسلم لأمر ربّه عزَّ وجل، جاءه الفرج من الله تعالى، وعُوفي وولده من هذا البلاء، وعُوفينا جميعاً معه من هذه المسألة، فكلما ذُكر قلنا: عليه السّلام؛ لأنّه حمانا من هذا الموقف الصعب(3).
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، سلام عليه من ربّه، إنّه سلام يسجل في كتابه الباقي، ويرقم في طوايا الوجود الكبير(4).
3. قوله تعالى:{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}:
كذلك نجزيهم بالبلاء، والوفاء، والذكر، والسلام، والتكريم(5)، كذلك يعني كما فعلنا مع إبراهيم نجزي كل مُحسن، ومحسن هو الذي لا يقف عند حدّ الواجب المطلوب منه، إنما يتعدّاه إلى الزيادة من جنس ما فُرض عليه وكُلف به، فالحقّ سبحانه فرض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، فمن زاد على ذلك فهو من الإحسان، الله فرض علينا الحقّ المعلوم للفقير وهو الزكاة، فمن زاد وأعطى غير المعلوم فهو من الإحسان، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} ]الذاريات:15-16[، يعني: زائدين عمّا فرض الله من جنس ما فرض الله عليهم، ثم يذكر سبحانه حيثيات هذا الإحسان: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} ]الذاريات:17-19[، والمحسن يستحق هذا الجزاء؛ لأن الذي يتقرب إلى الله بأكثر مما فرض الله عليه، دليل على أنه عشق التكليف والمكلَّف، وعلم أن الله كلّفه بأقل مما يستحق فزاد(6).
4. قوله تعالى:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}:
إنه جزاء الإيمان، وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين(7). وهذا الإيمان الذي أثنى الله تعالى به على إبراهيم - عليه السّلام – قد وصله إلى ذروته في درجة اليقين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ]الأنعام:75[(8).
5. قوله تعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}:
هذه البشارة الثانية بإسحاق الذي من ورائه يعقوب عليهم السّلام، فبُشر بوجوده وبقائه، ووجود ذريته وكونه نبياً من الصالحين، فهي بشارات متعددة(9).
6. قوله تعالى:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}:
أي: أنزلنا عليهما البركة - النمو والزيادة - في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر الله من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل وأمة الروم من ذرية إسحاق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي: منهم الصالح والطالح والعادل والظالم الذي تبيّن ظلمه بكفره وشركه، ولعل هذا من باب دفع الإيهام، فإنه لما قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ}، اقتضى ذلك البركة في ذريتهما، وأنّ من تمام البركة أن تكون الذرية كلهم محسنين، فأخبر الله تعالى أن منهم محسن وظالم(10). وقد بينت الآيات الكريمة أهمية وراثة الملة والمنهج، فمن اتبع فهو محسن، ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد(11).
مراجع الحلقة الرابعة والسبعون بعد المائة:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2997).
(2) قصص الأنبياء، مصطفى العدوي، (2/252).
(3) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (20/12802).
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2997).
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2997).
(6) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (20/12802).
(7) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2997).
(8) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1479.
(9) المرجع السابق، ص1479.
(10) المرجع نفسه، ص1480.
(11) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2997).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي