الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية:
خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية)
الحلقة: الثانية والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020

أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية رضي الله عنه ، وذكروا عدة مصارف وَسَمُوها بأنها جائرة وغير شرعية؛ منها:
1 ـ التفريط في خراج بعض الأقاليم والتفرقة في العطاء:
أ ـ إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص:
تتعدد الروايات التي تنصُّ على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وجُل هذه الأخبار تحوي روحاً عدائية لعمرو ومعاوية ، وتصور اتفاقهما على حرب علي كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة ، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما وتاريخهما مقابل عرض زائل أو نصر سريع ، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص نصره لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال في الشام وغيرها ـ وهي الطلب بدم عثمان ـ إلا إذا نال ولاية مصر وخراجها لنفسه ، وبعض هذه الروايات تحوي سباباً لهذين الصحابيين ، كأن تزعم أن عمرو فضَّل ولاية مصر على حسنى الاخرة وصرح بذلك فقال: إنما أردنا هذه الدنيا، أو أنه قال لمعاوية: لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك ، أو قوله: إنما أبايعك بها ديني ـ أي: بمصر ـ ، أو قوله لمعاوية: ولولا مصر وولايته لركبت المنجاة منها ، فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده ، إلى غير ذلك من الروايات.
وكذلك وردت روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي ، وكتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة وغيرها؛ تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح ، وصاحب مطامع ، وراغب دنيا ، وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتّاب والمؤرِّخين ، فأهووا بعمرو إلى الحضيض ، كالذي كتبه محمود شيت خطاب وعبد الخالق سيِّد أبو رابية ، وعباس محمود العقَّاد الذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد ، ويستخفُّ بقارئه ، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنَّهما: انتهازيَّان ، صاحبا مصالح ، ولو أجمع الناقدون التاريخيون على بطلان الرِّوايات التي استند إليها في تحليله؛ فهذا لا يعني للعقَّاد شيئاً ، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة ، واهية ، لا تقوم بها حجة: ... وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار ، وصحَّة هذه الكلمات، وما ثبت نقله، ولم يثبت منه سنده ولا نصُّه؛ فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه: أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة، ومعاونة على الملك، والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي ال إلى كلٍّ منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق.
وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجاً في تشويه صورة عمرو بن العاص ومعاوية واتهامهما بالظلم والبهتان؛ منها:
ـ ما عُرف من صحة إسلام وتقوى معاوية وعمرو، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما ، ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله عندما قال: «اللهم اجعله هادياً مهدياً ، واهد به»، وقوله : «اللّهمّ علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب». وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد شهد له رسول الله بالإيمان؛ حيث قال: «أسلم الناس وامن عمرو بن العاص»، وفي حديث آخر قال: «ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام»، وقول رسول الله : «... وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله لخيراً كثيراً».
ـ كانت بيعة عمرو لمعاوية في عهد علي على الطلب بدم عثمان ، فقد كان تأثر عمرو بمقتل عثمان عظيماً ، فعندما سمع خبر مقتل عثمان ارتحل راجلاً يبكي ، ويقول: يا عثماناه: أنعي الحياء والدين... حتَّى قدم دمشق، فقد كان من أقرب أصحابه ، وخلانه ، ومستشاريه ، وكان يدخل في الشُّورى ـ في عهد عثمان ـ من غير ولاية ، ومضى إلى معاوية رضي الله عنه ليتعاونا معاً على الاقتصاص من قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد ، لقد كان مقتل عثمان كافياً لأن يحرِّك كلَّ غضبه على أولئك المجرمين السَّفَّاكين ، وكان لا بدَّ من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرَّؤوا على حرم رسول الله ، وقتلوا خليفته على أعين النَّاس، وأيُّ غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟! وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع ، فمداره على الرِّوايات المكذوبة التي تصوِّر عمراً: كلُّ همه السُّلطة والحكم.
ـ ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص ، ما ذكره أبو مخنف أحد رواة الفرية السابقة: أن دفع معاوية جيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38 هـ وكان عمرو قائده في هذه الحملة ـ أنه كان يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها... فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو وهو في مسيس الحاجة إليه؟!.
ـ ومن الدلائل أيضاً: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر ـ وردان ـ أن زد على كل امرئ من القبط قيراطاً ، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم؟!أ ولم يلِ وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص؛ لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو ـ وهم عتبة بن أبي سفيان وعقبة بن عامر ومسلمة بن خالد ـ كانوا يتولون صلاتها وخراجها ، وهذه الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر ، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها ، وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يُحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة.
كما أن معاوية لم يكن يستحلَّ أن يتنازل عن خراج مصر ـ وهي من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك ـ لفرد واحد وهو يعلم أنه حق الأمة كلها ، وأنه لا يملك التنازل عنه ، وقد روى ابن تيمية عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم ، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءه عليكم.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها ، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى دخلها عمرو بن العاص سنة 38 هـ، لازددنا يقيناً أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لابن العاص ، وعلى ذات السبيل نذكر: أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص ، إن لم يفُقْهُ ، كمعاوية بن حديج وأصحابه من العثمانية ، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز ، وقد مر بنا فيما مضى أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية ـ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها ، ورفض أن يتولى إمارته ورده إلى الشام على نحو غير كريم ، فما استطاع معاوية أن يغضب ابن حديج.
ب ـ التنازل عن خراج (دارابجرد) للحسن بن علي:
زعم بعض المؤرخين: أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج (دارابجرد) ، وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة الاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية ، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج (دارابجرد) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه ، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين ، على أن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معاً ، وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل ، وهذا باطل ولا يصح ، والصحيح مثبت في البخاري بأن الحسن قال لوفد معاوية؛ عبد الرحمن بن سمرة ، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به ، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب ، يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية ، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه في قادم.
وذكر ابن أعثم: أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين ، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة ، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب ، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج (دارابجرد) لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن ، ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً ، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمئة ألف أو أكثر ، وذكر ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه ، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته ، وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (خمسة ملايين درهم) ، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه ، يوزِّعه بينهم، ويبقي لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه. ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر.
إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه؛ فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن واله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل
عام ، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية ، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها ، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة. وأما حقه في العطاء؛ فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين ، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره ، ولكنه لا يصل إلى عشر معشار ما ذكرته الروايات.
جـ التفرقة في العطاء:
أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما قبل ذلك في عهد رسول الله ، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور انتهاء المعارك ، وقد أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح ، وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك ، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين.
ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب، فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي على من عداهم، ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم ، فقد كانوا أنصارهم المخلصين ، وهم عماد الجيوش المجاهدة؛ سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح إفريقية والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم، كما حدث في قتال ابن الأشعث، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بإفريقية في عهد هشام.
2 ـ التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:
أنفق معاوية رضي الله عنه أموالاً كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن ، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل به قلوبهم، وقلوب أتباعهم وأنصارهم ، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من وراءهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسلَّ سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية؛ حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك؛ فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟! إن من الحق أن نقول: إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء.
3 ـ مظاهر الترف عند الأمويين:
هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا ، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم ، وقد لفت عمر بن الخطاب نظر معاوية رضي الله عنهما إليه وهو بعد أحد ولاة الشام ، يغدو في موكب ويروح في اخر ، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك ، فهي جزء منه ، تتأثر به ، كما تؤثر فيه ، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وإن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه ، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع ، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك ، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعُّم حراماً ، وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية ، خلفائهم وولاتهم ، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه ، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء وكان العرب يعدون ذلك كرماً ، ويتفاخرون به ، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً، والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها.
إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ، ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه واثاره في سقوط بلاد الشام في يد الصليبيين، ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية ، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير: {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦} [الإسراء: 16]. إنه كالحمض الأكَّال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب ، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام ، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال ولكن هذا يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله ، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه ، ولكنه تصرَّف بشأنه بمنع الفساد ، فمنع الصحابة رضوان الله عليهم من الخروج من المدينة للضياع والتجارة؛ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان (الأدبي) على الناس ، فيحدث التميز وتفسد الأحوال ، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة ، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم ، وإلى جانب ذلك وقبل ذلك أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة ، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس. فيفسد الناس.
أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر ، يسمح بالنفع ويمنع الضرر ، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية ، لا لأن المال في ذاته هكذا يصنع ، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الافة لم يبذل فتنفرد الافة وحدها بالسلطان ، وافة المال الترف ، وعلاجها في يد ولي الأمر... بنشر روح الجد في المجتمع ، وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه كما فعل الفرس ، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله تعالى: {ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٤١} [الروم: 41].
والترف مُعْدٍ ككل افة.. فحين لا يعالج ولا يوقف؛ فإنه ينتشر ولا بد.. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمر أسوأ ، لأن الحكام دائماً قدوة ، وقد كان الأمويون ـ برغم وجود الترف بينهم ـ أقل فساداً بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية ، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى ، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً ، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد ، ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء ، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير ، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى.

 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022