من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(مواقف رائعة بجانب الحسين رضي الله عنه)
الحلقة: التاسعة والسبعون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا، وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى، ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية . ومن هذه المواقف:
1 ـ موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان رحمه الله:
فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين وإلزامه بالقوة أو قتله، وقال: ... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسيناً، سبحان الله ! أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع ؟! والله إني لأظن امرأً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة . وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين ـ رضي الله عنه ـ
2 ـ موقف النعمان بن بشير رضي الله عنه:
وكان أمير الكوفة؛ فإنه بلغه خروج الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام، وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار، ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال رضي الله عنه: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله .
إن رضا الله ـ تبارك وتعالى ـ غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة ، يقول الحق عز وجل:{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ } [سورة التوبة:72]
3 ـ موقف الحر بن يزيد رحمه الله:
وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين رضي الله عنه فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم اكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت، ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، حتى قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟! بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه، واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين، وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها، ولو قطعت وحرّقت .
إن الحر بن يزيد ـ رحمه الله ـ غيَّر موقفه من الحسين ـ رضي الله عنه ـ بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده، والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة ، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
ولم يكُ فيهم رجلٌ رشيدٌ
سوى الحرِّ التميميِّ الرشيدِ
فواحزناهُ إنَّ بني عليٍّ
وفاطمٍ قد أُبيدوا بالحَديدِ
4 ـ موقف النّوار بنت مالك الحضرمية:
وهي امرأة خوليّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجانة ـ والإجانة إناء تغسل فيه الثياب ـ ثم دخل على زوجته، واوى إلى فراشه، فقالت له زوجته: ما الخبر عندك؟.
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله ﷺ! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً، نعم إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله ﷺ، ثم إنها يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟! إنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين رضي الله عنه ؟! إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com