تأملات في الآية الكريمة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 193
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1444ه/ يناير 2023م
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم - عليه السّلام- والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين(1).
أ- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}
أي: وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة، وإنما تسهل على من {كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، فإن الإيمان واحتساب الأجر والثواب يسهل على العبد كل عسير، ويقلل لديه كل كثير، ويوجب له "الإكثار من" الاقتداء بعباد الله الصالحين والأنبياء المرسلين، فإنه يرى نفسه مفتقراً ومضطراً إلى ذلك غاية الاضطرار(2).
إنَّ الأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها الرهط الكريم، ويجدون فيهم أسوة تتبع، وسابقة تهدي، فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منهم أسوة، وهو تلميح موحٍ للحاضرين من المؤمنين، فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج، ومن يريد أن يحيد عن طريق القافلة، ومن يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق، فما بالله من حاجة إليه سبحانه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(3).
ب- { وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}:
{وَمَنْ يَتَوَلَّ}: عن طاعة الله والتأسي برسل الله، فلن يضرّ إلا نفسه، ولن يضرّ الله شيئاً.
{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه(4).
و{الْغَنِيُّ}: من أسماء الله عزّ وجل، فهو الغنيّ بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله وكمال صفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنيّاً؛ لأنَّ غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا خالقاً قادراً رازقاً محسناً فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه، فهو الغنيّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض وخزائن الدنيا والآخرة، المغنيّ جميع خلقه غنىً عاماً، والمغنيّ لخواص خلقه مما أفاض على قلوبهم من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية(5).
ومن كمال غناه وكرمه أنه يأمر عباده بدعائه وبعدهم بإجابة دعواتهم وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأله، وما بلغت أمانيه، ما نقص من ملكه مثقال ذرة، ومن كمال غناه وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم واللذات والمتتابعات والخيرات المتواصلات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً في الملك ولا ولياً من الذل، وهو الغنيّ الذي كمُل بنعوته وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته(6).
و{الْحَمِيدُ} أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو ولا ربّ سواه(7).
يقول السعدي: {الْحَمِيدُ} في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمّها وأحسنها، فإن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل(8).
إنَّ الآية الكريمة بيَّنت من يريد أن يتولى عن المنهج الرباني، ومن يريد أن يحيد عن طريق إبراهيم وأتباعه، ويريد أن ينسلخ عن هذا النسب العريق، فما بالله من حاجة إليه - سبحانه- {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(9).
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض، وعرفوا تجاربهم المذكورة لهم في الأجيال المتطاولة، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مرّوا بهذه التجربة، ووجدوها طريقاً معبداً من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها.
ويؤكد القرآن الكريم هذا التصور ويكرره؛ ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك، ولو كان وحده في جيل، ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون متعة في الطريق، بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة ينسم عليهم بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام وإلى صفوف المسلمين، فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الودّ على أساسه الركين، ثم يخفف عنهم مرة أخرى - وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم- فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان، فأما حين ينتهي ينتفي العداء والعدوان، فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل(10).
مراجع الحلقة التالثة والتسعون بعد المائة:
( ) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/2543).
(2) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1815.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3543).
(4) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1815.
(5) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص674.
(6)الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، السعدي، ص47-48.
(7) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (1/321).
(8) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص372.
(9) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/2543).
(10) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3544).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي