الخميس

1446-08-14

|

2025-2-13

تأملات في الآية الكريمة:

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 194

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1444ه/ يناير 2023م

إنَّ الإسلام دين سلام، وعقيدة حبّ، ونظام يستهدف أن يظلّ العالم كلّه بظله وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين، وليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك.

وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الودِّ في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم، فالآية الكريمة من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس، في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة(1).

أ-{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}:

وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه، والمؤمنون الذين سمعوه لا بُدَّ قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤلفة قلوبهم(2).

وفي هذه الآية إشارة وبشارة بإسلام بعض المشركين الذين كانوا آنذاك أعداء للمؤمنين، وقد وقع ذلك ولله الحمد والمنة(3).

ب-{وَاللَّهُ قَدِيرٌ}

إنَّه قادر على كل شيء ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال(4). ويقول ابن قيّم الجوزية في كتابه طريق الهجرتين: "القدير": الذي لكمال قدرته، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً، والبرّ براً، والفاجر فاجراً، وهو الذي إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه {أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ]القصص:41[، ولكمال قدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، فإن فرّ منه، فإنه يطوي المراحل في يديه كما قيل:

وَكَيْفَ يَفِرُّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ

إِذَا كانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ(5)

ويقول السعديّ: "القدير": كامل القدرة بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وبقدرته يقلب القلوب، ويصرفها على ما يشاء ويريد(6).

ج-{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:

لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا عيب أن يستره(7).

والغفور من أسماء الله الحسنى: الذي لم يزل يغفر الذنوب، ويتوب على كل من يتوب(8).

والرحيم من أسماء الله الحسنى: فهو الذي يرحم عباده بنعمته ويفيض عليهم برحمته(9)، ومن رحمته سبحانه مغفرته لذنوب عباده والصفح عنهم وتكفير سيئاتهم وفتح باب التوبة لهم(10).

قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ]الزمر:53[، وقد تحقق هذا الرجاء من الله عزّ وجل: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وشرحت سورة النصر ذلك {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} ]النصر:1-3 [، حين دخل الناس في دين الله أفواجاً، وقد فتح الله عليهم مكة المكرمة، وكانوا طلقاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك موقف أبي سفيان وغيره، وعام الوفود إلى المدينة بعد الفتح، وفي التذييل بأن الله تعالى قدير، يشعر بأن تأليف القلوب ومودّتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده(11).

لقد أسلم أقوام من الكفار وحسن إسلامهم، ووقع بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودّة، وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقرّبة إلى الله تعالى(12).

 

مراجع الحلقة الرابعة والتعسون بعد المائة:

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3544).

(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3544).

(3) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1815.

(4) المرجع نفسه، ص1815.

(5) طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن قيم الجوزية، الدار السلفية، القاهرة، مصر، ط2، 1394هـ، ص235.

(6) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص421.

(7) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1815.

(8) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص569.

(9) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15125).

(10) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص134.

(11) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (8/146).

(12) فتح القدير، الشوكاني، (5/302).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://www.alsallabi.com/salabibooksOnePage/27

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022