الخميس

1446-08-14

|

2025-2-13

تأملات في الآية الكريمة:

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 196

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1444ه/ يناير 2023م

 

فمن وُجدت فيهم هذه الخصال الثلاثة أو بعضها: بأن قاتلوكم في الدين، أو أخرجوكم من دياركم، أو ظاهروا على إخراجكم، أي أعانوا على إخراجكم، فواحدة من هذه الجرائم تكفي لأن يكونوا محلَّ النفي والعداوة وتحريم البرّ والتولي {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

وقد ادّعى بعضهم أن الآية منسوخة، والصحيح أنه ليس فيها نسخ، وأنكر الطبري وعامة المفسرين دعوى النسخ؛ لأنَّ الآية متأخرة النزول، نزلت في السنة الثامنة للهجرة أو قريباً من ذلك، ولم يأتِ بعدها ما ينسخها، بل هي توضح لما فيها من الآيات(1).

‌أ- قول ابن قيّم الجوزية:

إنَّ الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم - أي في سورة الممتحنة- توهّم بعضهم أن برّهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودّة، فبيّن الله سبحانه أن ذلك ليس في الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء، وإنّما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودّة(2).

‌ب- قول الشوكاني:

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، وهم صناديد الكفر من قريش {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} أي: عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة من دخل معهم في عهدهم، وقوله: {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} بدل اشتمال من الموصول كما سلف {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: الكاملون في الظلم؛ لأنّهم تولوا من يستحق العداوة، لكونه عدوّ لله تعالى ولرسوله الكريم ولكتابه وجعلوهم أولياءهم(3).

‌ج- قول السعدي:

فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه(4).

إنَّ الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الممتحنة بعد التعقيب عن دعوة المسلمين الاقتداء بالأسرة الحسنة "إبراهيم - عليه السّلام - ومن معه" في الولاء والبراء، تمثل قاعدة في معاملة غير المسلمين، وتعدُّ أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه الكوني وتقديره الأزليّ، من وراء كل اختلاف وتنوع.

وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة ردّه، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد الاعتداء، أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء فيما عدا هذا، فهي السلم والبرّ والعدل للناس أجمعين(5).

ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية العقيدة دون غيرها، ويجعل القيمة التي يُفتن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون، إلا حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله.

وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة - أي سورة الممتحنة- كلها إلى إبراز قيمة العقيدة وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون، فمن وقف تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصدّ الناس عنها، ولم يحُل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مُسالم لا يمنع الإٍسلام من البرّ به والقسط معه.

إنَّ المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها مع نفسه، ومع الناس من حوله، فلا خصومة على مصلحة، ولا جهاد في عصبية؛ أي عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب، إنَّما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج المُطبّق في الحياة(6).

 

مراجع الحلقة السادسة والتسعون بعد المائة:

(1) إشراقات قرآنية، سلمان العودة، (2/112).

(2) أحكام أهل الذمة، ابن قيّم الجوزية، (1/602).

(3)فتح القدير، الشوكاني، (5/303).

(4) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1816.

(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3545).

(6) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3545).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022