تأملات في الآية الكريمة: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 117
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1444ه / نوفمبر 2022م
قال السعدي: أيّ لي ثناء صدق، مستمر إلى آخر الدهر، فاستجاب الله دعاءه، فوهب له من العلم والحكم ما كان به من أفضل المرسلين، وألحقه بإخوانه المرسلين وجعله محبوباً مقبولاً معظماً مثنى عليه في جميع المِلل في كل الأوقات(1)، قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} ]الصافات:108-111[.
قال القرطبي: وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يصلي على إبراهيم - عليه السلام - وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات، وأفضل الدرجات والصلاة دعاء بالرّحمة(2).
وقال الألوسي: أيّ: اجعل لنفعي ذكراً صادقاً في جميع الأمم إلى يوم القيامة، وحاصله: خلّد صيتي وذكري الجميل في الدنيا، وذلك بتوفيقه للآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرون ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون، وتعريف {الْآَخِرِينَ} للاستغراق، والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا إليها، وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه - عليه السّلام - في زمانه، ولكون الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى ورضائه، كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا.
ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي، وأنه - عليه السّلام - طلب الصّيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثة نبي فيهم يجدد أصل دينه، ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد معلماً لهم أن ذلك ملة إبراهيم - عليه السّلام -، فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة، وليس ذلك إلا نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ]البقرة:129[(3).
وروى أشهب عن مالك قال: قال الله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} ]الشعراء:84[، لا بأس أن يحبَّ الرجل أن يثني عليه صالحاً، ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ]طه:39[، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} ]مريم:96[، أي حباً في قلوب عباده وثناءً حسناً، فنبّه تعالى بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل(4).
ومعنى: {لِسَانَ صِدْقٍ} أي: ذكراً حسناً يذكر بحق، ويذكر بصدق، والصدق هو الكلام المطابق للواقع، وقدر ورد هذا المعنى في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} ]الإسراء:80[ يعني أدخلني بصدق - لا بغش- يعني مدخلاً أستطيع منه الخروج، وكذلك أخرجني مخرج صدق، وقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ]القمر:55[، وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} ]الأحقاف:16[(5).
وفي قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} أي: اجعل لي ثناءً حسناً وذكراً جميلاً في الأعقاب والأجيال المتوالية من بعدي، وذلك بتوفيقي للأعمال الحسنة، التي تبقى آثارها ومنافعها ماثلة في ذاكرة الشعوب والأمم، ولا تزال أعمال إبراهيم - عليه السّلام - الخالدة معالم حق وهدى بين الأمم والشعوب ومن أبرزها: دعوة التوحيد، وروفع قواعد بيت الله الحرام، وقصة الذبح والفداء... إلخ (6).
مراجع الحلقة السابعة عشر بعد المائة:
(1) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1222.
(2) تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، القرطبي، (13/113).
(3) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الآلوسي، (19/98-99).
(4) تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، القرطبي، (13/113).
(5) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (17/10599).
(6) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (6/168).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي