تأملات في الآية الكريمة: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 118
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م
أي: أدخلني برحمتك جنة النعيم، وهذا يدلُّ على أنه - عليه السّلام - يرى عمله في طاعة ربه، ويرى أنه لا يدخل الجنة بعمله، إنما يدخلها بفضله تعالى ورحمته، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحد عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحبّ العمل إلى الله أدومه وإنّ قلّ(1).
وكلمة ميراث الجنة: {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}، وردت في القرآن أيضاً في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} ]المؤمنون:10-11[، والميراث أن تأخذ ملكاً من آخر بعد موته، فكيف تكون الجنة ميراثاً؟ قال العلماء: إنَّ الخالق - عزّ وجل- لم يخلق الجنة على قدر أهلها، وكذلك النار، إنما خلق الجنة تتسع للناس جميعاً إن آمنوا، وخلق النار تتسع للناس جميعاً إن كفروا؛ ذلك لأنه سبحانه خلق الخلق مختارين من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وعليه ميراث الجنة يعني أن يرث المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة يتقاسمونها فيما بينهم، والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه، لكن لا يسأل عنها، إنما يأخذها طيبة حتى إن جمعها صاحبها من الحرام، إلا إن أراد الوارث أن يبرئ ذمة المورّث، فيرد المظالم إلى أهلها.
إذن، الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هبة، وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة أن الله تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبة منه سبحانه وتفضلاً عليهم وليس بعملهم، فالجنة جاءتهم كما يأتي الميراث لأهله دون تعب منهم ودون سعي، وهذا تصديق للحديث النبوي الشريف الذي ذكرته في تفسير هذه الآية.
فالجنة ميراث؛ لأنَّ الأصل أنك لا تُجازى على الخير الذي قدمته؛ لأنّه تكليف من الله تعالى يعود خيره عليك في الدنيا حيث تستقيم به حياتك وتسعد بها، وما دام التكليف في صالحك، فكيف تأخذ أجراً عليه، كالوالد حين يحثّ ولده على المذاكرة والجدّ في دروسه، فهذا يعود نفعه على الولد، لا على الوالد، وكأن ربك - عزّ وجل- يقول لك: ما دُمت قد احترمت تكليفي لك، وأطعتني فيما ينفعك أنت، ولا يعود عليّ منه شيء فحين أعطيتك الجنة أعطيك بفضلي وهبة مني، أو أننا نأخذ الجنة بالعمل والمنازل بالفضل.
إذن لا غنى لأحد منا عن فضل الله لذلك يقول سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ]يونس:58[، هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة، وينبغي ألّا تعوّل على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة، واعلم أن النجاة لا تكون إلا برحمة الله وفضل منه سبحانه(2).
وفي سؤال إبراهيم - عليه السّلام - {الجَنَّة} ردُّ على من يقول ينبغي أن تكون عبادتك منزّهة عن سؤال الجنة، والجنة ليست كما يظن البعض أنّها طعام وشراب وحور عين ليس غير، نعم فيها طعام، وفيها شراب، وفيها فاكهة وفيها أنهار من لبن، ومن عسل ومن كل شيء ذكره الله في القرآن، ولكن فيها فوق ذلك، وهو النظر إلى وجهه الكريم والقرب منه، لذلك كانت الجنة هي النعيم المطلق فإذا سألت الله الجنة، فلا تسأله الطعام والشراب فقط، بل اسأله القرب منه واسأله أن تنظر إلى وجهه الكريم(3).
وقد طلب إبراهيم - عليه السّلام - في ليلة الإسراء والمعراج من نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن يبلغ أمته السلام، ويعلمهم السبيل إلى تكثير أشجارهم في الجنة، وذلك بالإكثار من ذكر الله من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وفي الحديث وصف الجنة بأن تربتها طيبة وماؤها عذب سلسبيل(4).
فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقيت إبراهيم ليلة أسريّ بي، فقال يا محمد أقرئ أمتك منّي السلام وأخبرهم أن الجنة طيّبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان(5)، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر(6).
مراجع الحلقة الثامنة عشر بعد المائة:
(1) صحيح مسلم، رقم (2818).
(2) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (17/10601).
(3) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (8/377).
(4) الحوار في قصة الخليل عليه السلام في القرآن دروس وعبر، محمود سعد عبد الحميد شمس، ص158.
(5) قيعان: من قاع، وهو المكان المستوي في الأرض.
(6) سنن الترمذي، رقم (3462).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي