الخميس

1446-08-14

|

2025-2-13

تأملات في الآية الكريمة:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 203

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1444ه/ فبراير 2023م

 

تكلمت الآية السابقة عن جدال إبراهيم - عليه السّلام - الملائكة في شأن قوم لوط وعذابهم، وهذه الآية تثني عليه حتى لا يظن أنه متعاطف مع الكافرين، وإنما هو يجادل من حلمه في دعوته وطول اصطباره واحتماله(1).

وهذه الآية من أقصر آيات سورة هود، بل هي أقصرها، فهي من خمس كلمات وفيها عشرون حرفاً بالرسم القرآني.

‌أ- {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ }:

للتوكيد وزيدت "نحوياً" اللام في الخبر للتوكيد، وعبّر بالاسم إبراهيم - عليه السّلام - مع قرب العهد دون التعبير بالضمير، لتكريمه بذكر اسمه، ولتفخيم شأنه والثناء عليه ولاستحضاره في ذهن القارئ باسمه الكريم.

‌ب- { لَحَلِيمٌ }:

إنّه لشديد الحلم وعظيمه، والحلم السعة في الخلق والسماحة في كل الأمر، والعفو والصفح والاحتمال، ومقابلة السوء بالإحسان، والحلم سيّد الأخلاق كما يقال، والحلم خصلة حبيبة إلى الله تعالى كما ورد الحديث بهذا المعنى إذ قال الرسول للأحنف بن قيس: إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ، أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم(2).

والحليم: متأنٍ غير عجول(3)، والحليم: الموصوف بالحلم، وهو صفة تقتضي الصفح واحتمال الأذى(4).

‌ج- {أَوَّاهٌ}:

كثير التأوه، علوزن "فعال" وهي صيغة تفيد وقوع الشيء منه مرّة بعد مرّة، ففيه معنى التردد والتكرار، والكثرة والاستمرار، وفي التأوه إشارة إلى الشفقة والرقة والرّحمة والرأفة، وقد تكرر هذا الثناء على إبراهيم في سورة التوبة في قصة استغفاره لأبيه، وقال هناك {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}(5).

ومن معاني {أَوَّاهٌ}: خاشع متضرع في الدعاء أو كثير التأوه من خوف الله، قال أبو عبيدة: الأواه: المتأوه فرقاً، المتضرع يقيناً ولزوماً للطاعة وأصل التأوه: قول الرجل: أوّه أو أوْه: أي أتوجع(6).

‌د- {مُنِيبٌ}:

مبالغة على وزن "فعيل" أيضاً، أي كثير الإنابة إلى الله تعالى من كل أمر يظن أنه قصر فيه، فهو كثير الرجوع إلى الله في أمره كله(7).

فالآية الكريمة ذكرت ثلاث صفات لإبراهيم - عليه السّلام -: الحلم، والتأوّه، والإنابة: أنه حليم مع الناس، وأوّاه متحزن متخشع مع نفسه، ومنيب دائم الإنابة والعودة إلى الله(8).

ويظهر من إبراهيم - عليه السّلام - في قصته الهدوء والحلم، وهذا الظلّ الكريم هو الذي يظلل كل مشاهد ولقطات قصته في القرآن، إنه حليم هادئ متسامح لا يحتدّ ولا يغضب، ولا يسبّ ولا يشتم، هادئ حليم مع قومه، عندما أبطل كون الكواكب آلهة، كما بينت آيات سورة الأنعام، وهادئ حليم في جداله مع الملك الكافر الظالم كما ذكرت آية سورة البقرة، وهادئ حليم حتى عندما حطم الأصنام، فما حطمها عنفاً وتطرفاً ولكن حطمها من باب الحلم؛ لأنّه مشفق على قومه، حريص على إزالة الحواجز أمامهم ليفتح لهم الطريق للإيمان، وهادئ حليم عندما ألقوه في النار، فلجأ إلى الله وأناب إليه، وهادئ حليم عندما أخذ ابنه وزوجه إلى بلاد الحجاز، ودعا الله دعاء خاشعاً منيباً كما عرضت سورة البقرة وسورة إبراهيم، إنّه نموذج ومثال للعلم والهدوء والإنابة والتسامح، وهو قدوة في هذا لمن بعده من الصالحين(9).

• الدروس والفوائد في الآية الكريمة:

- الحلم من أعظم الأخلاق، وهو سيد الأخلاق.

- الرّحمة والشفقة على العباد من أعظم مزايا الأنبياء.

- الرجوع إلى الله سمة المؤمن عموماً، فكيف الرسل؟

- الحلم خصلة يحبها الله في عباده.

- الحلم يكون ثمرة رياضة نفسية عالية وكظم للمشاعر وضبط عالٍ للسلوك.

- إبراهيم نموذج للحلم ومثال أعلى(10).

إنَّ موطن العظمة في إبراهيم - عليه السّلام - هو قلبه الكبير الذي عاش بالتوحيد وإفراد العبادة لله رب العالمين، ووسع قلبه الناس، فهذه الآية {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} تشير على أن من تمام الإنابة عن خصوصية الواقعية في بناء الشخصية النبوّيّة تحديد مقوماتها الخاصة بدقة، تفريد بعض الأنبياء ببعض الوصف دون بعض لكمال شهرتهم بذلك، فإبراهيم "حليم" غير عجول من الانتقام من المسيء، وهو "أواه" كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس، وهو "منيب" راجع إلى الله، وهي صفات منبئة عن الشفقة ورقّة القلب(11).

 

مراجع الحلقة الثالثة بعد المائتين:

(1) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص276.

(2) المرجع نفسه، ص277.

(3) صفوة البيان لمعاني القرآن، محمد حسنين مخلوف، ص267-297.

(4) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص277.

(5) المرجع نفسه، ص277.

(6) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص277.

(7) المرجع نفسه، ص277.

(8) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/430).

(9) المرجع نفسه، (1/431).

(10) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص278.

(11)الوصف في القصة القرآنية، أرشد يوسف العباس، ص101.

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022