الخميس

1446-08-14

|

2025-2-13

تأملات في الآية الكريمة

{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 201

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1444ه/ فبراير 2023م

 

نجد تمام الاتصال وكمال الاتساق بين هذه الآية وسابقتها، فهناك تعجبت امرأة إبراهيم - عليه السّلام - وعليها من أن تنجب، فيما يبدو أنه محال أو أقرب إلى الخيال، وهنا يردّ الملائكة على السؤال (أألد) وعلى قولها: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} فيقولون: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، فلا محل للعجب.

‌أ- {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}:

{قَالُوا}: أي الملائكة والضمير للجميع كما هو للواحد ويبدو أنهم جمع لكنا لا نعلم كم هذا الجمع، أثلاثة أم فوق هذا العدد وليس من شأن القرآن أن يدخل فيما لا جدوى من تفصيله وإنما قلت هذا لأوكد المؤكد(1).

{أَتَعْجَبِينَ}: ردّوا على همزة الاستفهام أألد بهمزة استفهام: أتعجبين؟ هل تعجبين يا زوج النبي الكريم، وهل تستغربين وأنت في بيت يتلقى صاحبه الوحي من الله ويأتيه الأمر من الله، وهو موصول كل لحظة من لحظاته بالله.

{مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}: هذا المستعجب منه والمتعجب من شأنه، أمر من أمر الله، ولا عجيب على الله ولا غريب على قدرته، وحرف الجر {مِنْ} متعلق بالفعل قبله.

{أَمْرِ اللَّهِ}: شأنه سبحانه، وكل أمر هو من أمر الله أي بأمره وإذنه أو أمره ما يأمر به سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

فالأمر لفظ عام ككلمة شيء مطلق يطلق على ما لا يحصى من الأمور، وأضاف الأمر إلى الله لتعظيم شأنه، فالشيء يعظم بالانتساب للعظيم، كتاب الله، رسول الله، بيت الله(2).

‌ب- {رَحْمَت اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}:

{رَحْمَت اللَّهِ}: فما الفرق بين رحمت الله ورحمة الله؟ الفرق بين رحمت الله ورحمة الله: أن الرّحمة التي تأتي فيها التاء مفتوحة أو مبسوطة "رحمت الله" مفادها أنّها رحمة بسطت بعد قبضها وأتت بعد شدة، ودائماً تكون مضافة مباشرة للفظ الجلالة عزّ وجل، مثال: بعد مرور السنين الطويلة وتعدي الزوجة للسنِّ التي تستطيع أن تحمل وتلد وتعطي الذرية فيها، تأتي البشرى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجه، قال تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}: فتح بعد قبض.

وتأتي كذلك استجابة لدعاء زكريا - عليه السّلام - بطلب الولد، قال تعالى: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ثم تأتي بعدها قصة وهب الله يحيى لزكريا عليهما السلام فتح بعد قبض، وأيضاً قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتح بعد قبض، وتدل أيضاً التاء المبسوطة على اتساع رحمة الله عزّ وجل {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(3).

أما الرّحمة التي تأتي فيها التاء مربوطة، هي رحمة مرجوة لم تفتح للسائل بعد، فالعابد القانت الساجد آناء الليل ويحذر الآخرة، فهو يرجو رحمة ربّه في الآخرة، ألا وهي الجنة التي هي مقفلة دونه في الحياة الدنيا، وستفتح له يوم القيامة إن شاء الله، قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} هي رحمة مرجوّة، وفي قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} هي رحمة موعود بها.

وأضيفت رحمت في آية {رَحْمَت اللَّهِ} إلى لفظ الجلالة لتعظيم شأنها، وفي هذه الآية {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ..} ثلاث كلمات مضافة إلى لفظ الجلالة أو الضمير العائد إليه، وأما الأولى والثانية فقد تفوقت فيهما سورة هود، وأما الثالثة فانفردت بها فتأمل(4).

{وَبَرَكَاتُهُ}: أضيفت البركات إلى لفظ الجلالة كذلك، ولم ترد كما مرّ في القرآن إلا هنا، أعني مضافة، ووردت بركات في هذه السورة قبل آيات البركة والخير الكثير، وهي مفهوم كبير قد لا يفهمه المادي والملحد والحسابي، أعني من يحسب الأشياء بالأرقام، ويتعامل مع حدود الفيزياء، فأنّى يفهم معنى البركات وما درى أن الله يصرف عنكم من البلاء والمرض وتلف الأشياء والحوادث ويبارك به دخلك، وكم من أناس دخلهم ألوف ولا يكفيهم وأناس يعيشون سعداء ومستورين بالقليل.

وكيف تعيش بلدان فقيرة بالأمطار كالأردن وفلسطين وبلاد الشام، بل إن ثمراتها أطيب الثمرات؛ لأنّها أرض مباركة.

وعلى كل حال هذا مفهوم إيماني، فمن كان لا يؤمن فلا يتمحل ولا يحرم المؤمن من إيمانه واعتقاده وراحة باله، فليظل هو في أرقامه وحساباته وآلاته التي تساعده على الحساب {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، هذا شأن البشر وشأن الدنيا ومن عليها، فلا نتجادل في الكلام ولا نتزيد في الخصام، وليمض كلٌ في سبيل(5).

{عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}؛ أيّ رحماته تعالى متتابعة عليكم وخيراته النامية المتكاثرة عليكم يا أهل البيت، والمراد به بيت النبوّة، البيت المفرد العلم، معدن النبوة، وموضع الرسالة، الذي تفرعت منه كل النبوات والرسالات حتى ختمت بخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه وعلى آله الصلاة والتسليم، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ]العنكبوت:27[، ودلّت الآية على دخول الزوجة في أهل البيت ويؤكده ما أنزل الله في بيت النبوة مخاطباً أمهات المؤمنين: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ]الأحزاب:33[(6). وقوله تعالى في قصة موسى: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ} تأكيداً لهذا المفهوم(7).

قال ابن عطية الأندلسي: وهذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل بيته؛ لأنّها خوطبت بهذا، فيقوى القول في زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنهن من أهل بيته الذين أذهب عنهم الرجس(8).

وقال القرطبي: ويُستدل من هنا على أن زوجة الرجل من أهل بيته، ودلّت الآية أيضاً على أن منتهى السلام: {وَبَرَكَاتُهُ}؛ كما أخبر الله عن صالحي عباده: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}، والبركة: النموّ والزيادة، ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة(9).

‌ج- {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}:

إنَّه المستحق الحمد سبحانه وتعالى، والمستحق التمجيد والتعظيم، فله المجد، وله العزّة، وله الكبرياء، وله المحامد كلها ربنا العظيم، وقال ابن عاشور: جملة: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}: تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأن الله تعالى يحمد من يطيعه وبأنه مجيد: أي عظيم الشأن لأحد لنعمه فلا يعظم عليه أن يعطيه ولداً وفي اختيار وصف الحميد - والمجيد- من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضى الله تعالى على إبراهيم - عليه السّلام - وأهله(10)، فالله مصدر كل فعل محمود ومنشأ كل كرم وجود، ويفيض برحمته وبركاته على من يشاء من عباده.

 

مراجع الحلقة الواحدة بعد المائتين:

(1) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص268.

(2) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص269.

(3) المرجع نفسه، ص269.

(4) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص270.

(5) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص270.

(6) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (4/78).

(7) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص270.

(8) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)، (3/191-192).

(9) تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، القرطبي، مرجع سابق،: (9/71).

(10) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص272.

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022