تأملات في الآية الكريمة:
{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 199
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1444ه/ يناير 2023م
ما زلنا في مشهد ضيوف إبراهيم من الملائكة، وفي هذه الآية يتحدث عن امرأة النبي الكريم، وهي قائمة لخدمة الضيوف مع زوجها الرسول - عليه السّلام -، فالصّلة عروة وثقى(1).
أ- {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ }:
الواو عاطفة أو استثنائية والجملة مبتدأ وخبره.
و{وَامْرَأَتُهُ}: أي امرأة النبي الكريم إبراهيم - عليه السّلام -، وعبّر بالمرأة دون لفظ الزوج لأن المقام لا يقتضي إلا بيان موقف معين، خدمة الضيوف، وهذا أنسب له التعبير الذي ذكره النص الكريم(2).
و{قَائِمَةٌ}: واقفة على خدمة زوجها وضيوفه(3)، قال ابن الجوزي: واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال:
- أحدها: وراء الستر تسمع كلامهم، قاله وهب.
- والثاني: كانت قائمة تخدمهم، قاله مجاهد والسديّ.
- والثالث: كانت قائمة تصلي، قاله محمد بن اسحاق(4).
{فَضَحِكَتْ}: الفاء تفريعية، وضحكت بمعنى تبسمت تبسم الضحك، وإنما ضحكت للخير العظيم الذي يفرح قلب كل مؤمن بهلاك الظالمين والمجرمين(5).
وذكر أبو جعفر الطبري سبب ضحك سارة زوج إبراهيم - عليه السّلام - ولخص أقوال العلماء، ثم رجع بعد ذلك فقال: ضحكت تعجباً من أنّها وزوجها يخدمان ضيفانهم بأنفسهما؛ تكرمةً لهم وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.
وقال آخرون: بل ضحكت تعجباً من قوم لوط - عليه السّلام - من الغفلة ومما أتاهم من العذاب.
وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت ما بزوجها إبراهيم من الروع، وقال آخرون: بل ضحكت حين بُشرت بإسحاق تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.
وقال آخرون: بل ضحكت سروراً بالأمن منهم لما قالوا لإبراهيم: {لَا تَخَفْ}، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضاً كما خافهم إبراهيم، فلما أمنت ضحكت، فأتبعوها بالبشارة بإسحاق.
ويقول الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال ضحكت: فعجبت من غفلة قوم لوط عما أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه، ثم يقول الطبري: إنَّ ما قلت هذا القول أولى بالصواب؛ لأنّه ذكر عقب قولهم لإبراهيم عليه السّلام: {لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} فإذا كان ذلك كذلك وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم {لَا تَخَفْ} كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط(6).
وقال ابن عاشور: ضحكت سارة من تبشير الملائكة لإبراهيم - عليه السّلام - وكان ضحكها ضحك تعجب واستبعاد(7).
وقال الخالدي: كانت امرأة إبراهيم سارة رضي الله عنها واقفة قائمة على خدمة ضيوف زوجها والترحيب بهم، واطمأنت لما علمت أنهم ملائكة، ولما سمعت بمهمتهم في إهلاك قوم لوط ضحكت وسُرَّت بذلك.
إنَّها تعلم من هم قوم لوط، وتسمع عن كفرهم وضلالهم، وتسمع عن انحرافهم وشذوذهم، وتسمع عن إتيانهم الرجال وارتكابهم اللواط، وكم ساءها ذلك منهم، وكم تمنت تدميرهم وتعذيبهم وهلاكهم، والآن حلَّ بهم أمر الله تعالى، وها هي الملائكة في طريقها إليهم لإهلاكهم، وبعد قليل سيدمّرون، لذلك ضحكت سارة العجوز العقيم المؤمنة، وفرحت وسرَّت بذلك، فضحكها ضحك حقيقي، يقوم على الفرح والسرور.
ولا نورد هنا الأقوال السخيفة التي تحمل الضحك على الحيض، ولا نناقش القول المتهافت الذي يقول: إنَّ ضحك سارة هو حيضها، وهي واقفة، ومجيء العادة الشهرية لها بعدما بلغت سن اليأس، فهذا لا يستحق مناقشته وإظهار بطلانه(8).
ب- {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}:
{فَبَشَّرْنَاهَا}: هي ضحكت لبشرى، فأردفتها الملائكة ببشرى أخرى وهي الولد، وسمّاه السّياق الكريم وليس فقط بشر به: {بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}، فالملائكة إذن بشرت امرأة إبراهيم بولد، وذكرت اسمه أنه مسمى بهذا الاسم من عند الله: إسحاق(9)، ومعنى إسحاق "الضاحك" بالعبرية، أو الذي يضحك(10).
وبشرتها الثالثة ضمن البشرى الثانية، وهي أن هذا المبشر به سيولد له مبشر به أيضاً وهو يعقوب - عليه السّلام -، ووراء بمعنى عقب، وهو يعقوب الذي جاء عقب إسحاق، والذي سيُعقب الأسباط الذين سيكونون شعب بني إسرائيل، فهو يعقوب بمعنى الكلمة(11).
قال ابن كثير في الآية {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أي: بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، كما قال في آية البقرة {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ]البقرة:133[، ومن هنا نستدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل - عليه السّلام - وأنه يمتنع أن يكون إسحاق؛ لأنَّه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خُلف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه فتعين أن يكون هو إسماعيل، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه، ولله الحمد(12).
وقد بيّنت الآية أن الملائكة لم تبشر سارة - عليها السّلام - بالولد فحسب، بل بشرتها بولد الولد، أي بالأحفاد، وهذا عزّ الكرم وغاية المنح ودليل الجود؛ لأنَّ الذي هو أعزّ من الولد هو ولد الولد كما يقول الناس في المثل السائر(13).
ويعدُّ إسحاق - عليه السّلام - من بين الأنبياء الذين اختار لهم ربنا تعالى أسماءهم، وكما جاء هذا النبي كطفل في سن كبيرة، وكان مع تقدمها في هذه السن من الاستحالة أن ينجباه لولا تدخل قدرة الله المطلقة ورحمته الواسعة ومشيئته النافذة وحكمته البالغة، ليس هذا فقط بل إنَّ الله تعالى قد وصف نبيه إسحاق بأنه غلام عليم، وأنه سوف يكون نبيّاً من الصالحين(14).
إنَّ نبيّ الله إسحاق - عليه السّلام - جاء بمعجزة إلهية، حيث ولدته أمه وهي عجوز عقيم، وجعل في ذريته أنبياء بني إسرائيل، وله الفضل ولابنه يعقوب بعد الله تعالى في تواجد الأمة اليهودية وبني إسرائيل، ومع ذلك قد نال هؤلاء القوم الظالمون منهما، حيث أنزلاهما منازل سيئة ومشبوهة فيما قالوا وكتبوا عنهما في التوراة المزورة، بل وشمل هذا التزوير والافتراء على الله تعالى معظم أنبياء بني إسرائيل أو كلّهم، وللأسف، فإن من لم يشمله هذا التزوير والتقوّل عليه بالأكاذيب ناله التعذيب والقتل(15).
وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الأفعال المشينة من جانب بني إسرائيل تجاه أنبيائهم، مع أن الله تعالى قد كرّم هؤلاء الأنبياء ووصفهم وصفاً حميداً، كما أثنى عليهم وعلى ما قاموا به من مهام تجاه قومهم من بني إسرائيل؛ لأجل هدايتهم وإعادتهم إلى الصراط المستقيم، ومن بين هؤلاء الذين حدثنَا عنهم كتاب الله إسحاق ويعقوب عليهما السّلام(16).
مراجع الحلقة التاسعة والتسعون بعد المائة:
(1) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص262.
(2) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص262.
(3) المرجع نفسه، ص262.
(4) التدبر والبيان في تفسير القرآن بصحيح السنن، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، (15/269).
(5) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص262.
(6) تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل القرآن"، (15/390-394).
(7) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (12/119).
(8) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/421).
(9) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص263.
(10) موسوعة نساء الأنبياء (أمهات وزوجات وبنات الأنبياء من آدم إلى الرسول صلى الله عبيه وسلم)، إسماعيل حامد، ، ص69.
(11) تفسير سورة هود، أحمد نوفل، ص263.
(12) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (4/265-266).
(13) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص96.
(14) ثمانون شخصية مشهورة في القرآن الكريم، حنفي المحلاوي، دار النشر للجامعات، 2013م، ص65.
(15) المرجع السابق، ص65.
(16) المرجع نفسه، ص65.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي