(زهد نور الدين زنكي في الألقاب)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 95
بقلم: د.علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
عندما تَفْقُدُ قيادةٌ ما القدرةَ على الإسهام الجادّ في حركة التاريخ؛ يتحوّل همها إلى منح النياشين، والألقاب لمن يقدرون من أجل أن تغطي عجزها وانكماشها، لكن رجلاً فاعلاً كنور الدين يرفض هذه المنح خوفاً أن يكون في طياتها الكذب، والمبالغة، والزيف، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد، والغرور، كثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون، أما نور الدين الذي علّمه التجرد كيف يكون الرفض؛ فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله.
تلقَّى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها «قائمة» بألقابه التي كان يُذْكَر بها على منابر بغداد:...اللهم أصلح المولى، السلطان، الملك، العادل، العالم، العامل، الزاهد، العابد، الورع، المجاهد، المرابط، المثاغر نور الدين، وعدَّته ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيَّ الإمامة وأثيرها، فخر الملَّة ومجدها، وشمس المعاني وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين المظلومين من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.
لكن نور الدين أسقط جميع الألقـاب، وطرح دعاءً واحداً يقول: اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي(1). وثمة رواية أخرى تمنحنا مزيداً من الأضواء عن الموضع، وتتضمن كلمات وجملاً من إنشـاء نور الدين نفسه..روي أنه كتب رقعة بخطه إلى وزيره خالد بن القيسراني ـ بعـد أن استفزته كثرة الألقاب ـ يأمره أن يكتب له صـورة ما يدعى لـه بـه على المنـابـر، وكـان مقصـوده صيـانة الخطيب عن الكذب، ولئلا يقول ما ليس فيه، فكتب ابن القيسراني كلاماً ودعا له فيه، ثم قال: وأرى أن يقال على المنبر: «اللهم وأصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود زنكي».
فكان جواب نور الدين: هذا لا يدخله كذب ولا تزيُّد. وكتب بخطه في أعلى الصفحة: مقصودي ألاَّ يكذب على المنبر أنـا بخلاف كل ما يـقال. أفرح بما لا أعمل؟ والتفت إلى وزيره قائلاً: الذي كتبت به جيد، اكتب به نسخاً إلى البلاد(2).
ثم أضاف ثم يبدؤون بالدعاء: اللهم أَرِهِ الحق حقاً اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه..من هذا الجنس(3).
إن القيادة التي تريد أن تنهض بالأمة، وتمارس فقه النهوض في حياتها عليها أن تمنع كل ما من شأنه أن ينمِّي روح النفاق، والتزلف للمسؤولين؛ لأن ذلك يوفر النقد البنّاء، وحرية الرأي، للشعوب حتى يعرف القادة أخطاءهم، فيصلحوها في حركته النهضوية، وعلى القيادة أن تتصف بالتجرد لله في أعمالها، وتزهد في حطام الدنيا الزائل. لقد كان زهد نور الدين زهد المؤمن الذي لا يرغب في الدنيا، وما فيها من ملذات، وشهوات، ويسعى ويعمل للآخرة دار النعيم والخيرات، ولقد مدح ابن القيسراني نور الدين في زهده، فقال:
يغشـــــــــــــى الوغــــــــــى أفـــــــــــــــــــــــرس فرسانهـــــــــــــــــــــــــــــــا وفــــــــي التقـــــــــــــــــــى أزهــــــــــــــــــــــــــد زُهَّادهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا(4)
ويقول أيضاً:
ثنـــــــــــــــــــى يــــــــــــــده عـــــــــــن الدنيــــــــا عفافــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً ومـــــــــــال بهـــــــــا عـــــن الأمــــــــوال زهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا(5)
ويصوره ابن منير من الصالحين الأبرار، الذين يزهدون فيما يتنازع عليه الناس من عرض الدنيا، فيقول:
لا زلـــــــــــــــت تقفـــــــــو الصالحيــــن مسابقــــــــــــــــــــــــــــــاً لهـُــــــــــــــــــم وتَطلــــــــــــــــــــعُ خلفــــــــــــــك الأبـــــــــــــــــــــــــــــرار
نفــــــــس السيـــادة زهـــــد مثلــك فـــي الــــــــــــــــــذي فيـــــــه تفانــــــــــــت يَعْـــــــــــــــــــــــــــــــرُب ونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزار(6)
مراجع الحلقة الخامسة والتسعون:
(1) الكواكب ص 68 ـ 69 نور الدين محمود ص 42.
(2) مراة الزمان (8/322 ـ 323) نور الدين محمود ص 43.
(3) هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص 274.
(4) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين في الأدب العربي ص 64.
(5) المصدر نفسه ص 64.
(6) ديوان ابن منير ص 192 نور الدين في الأدب العربي 65.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي