الأربعاء

1446-12-08

|

2025-6-4

(تجرُّدُ نور الدين زنكي وزهده الكبير)

من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

الحلقة: 94

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م

 

فهم نور الدين محمود زنكي ـ رضي الله عنه ـ من خلال معايشته للقران الكريم، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة؛ بأنَّ الدنيا دار اختبار، وابتلاء، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرَّرَ من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع، وانقاد، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً، ومن هذه الحقائق:

* اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبـه بالغربـاء، أو عابري سبيل، كمـا قـال النبي صلى الله عليه وسلم : «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»(1).

* وأن هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قيمة عند رب العزَّة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء(2)، ألا إنَّ الدُّنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالماً، أو متعلِّماً(3)».

* وأنَّ عمرها قد قارب على الانتهاء؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه: السبابة، والوسطى»(4).

* وأن الاخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون: ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠﴾ [غافلا: 39 – 40](5). كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، فترفَّع ـ رحمه الله ـ عن الدّنيا وحطامها، وزهد فيهما، وإليك شيئاً من مواقفه:

1 ـ قال ابن الأثير: «وحكى لنا الأمير بهاء الدين علي بن الشكري، وكان خصيصاً بخدمة نور الدين، قد صحبه من الصبا، وأنس به، وله معه انبساط، قال: كنت معه في الميدان بالرُّها؛ والشمس في ظهورنا، فكلّما سرنا تقدمنا الظل، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسه وهو يتلفت وراءه وقال لي: أتدري لأيِّ شيءٍ أجري فرسي، وألتفت ورائي؟ قلت: لا، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها قلت: رضي الله عن مَلِك يفكِّر في مثل هذا، وقد أنشدت بيتين في هذا المعنى، وهما:

مثــــــــــــــــــلُ الــــــــــــــــــــرزق الـــــــــــــــــــــذي تطلبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه مثـــــــــــــــــــــــل الظـــــــــــــــــــل الــــــــــــــــــذي يمشـــــــــــــــــي معـــــــــــــــــــــــك

أنـــــــــــــــــــــــــــــت لا تدركــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه متبعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وإذا ولَّيـــــــــــــت عنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه تبعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك(6)»

2 ـ تشبَّه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده، وقد كان الأخير حاكماً لأقوى دولة على الأرض في زمنه، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه، ولا على أهله، إلا من مُلكٍ اشتراه من سهمه من الغنائم، وكان يُحضر الفقهاء، ويستفتيهم فيما يحلُّ له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فيأخذ ما يفتونه بحله، ولم يتعداه إلى غيره البتة(7).

قال العماد الأصفهاني: «كان رسم نفقته الخاص في كل سنة من جزية أهل الذمَّة مبلغ ألفي قرطاس(8)، يصرفه في كسوته، ونفقته، ومأكوله، ومشروبه، وحوائجه المهمة، حتى أجرة خياطه، وطباخه، ومن ذلك المقرر المعين النزر، ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر، ويفضه على المساكين، وأهل الفقر(9)».

3 ـ وأما ما يهدى إليه من الثياب، والألطاف، وهدايا الملوك من المناديل، والسكاكين، والمهاميز، والدبابيس، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض نظره عنه، وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصِّل أثمانها الموفورة، ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة(10).

4 ـ ولم يلبس قط ما حرَّمه الشرع من حرير، أو ذهب، أو فضة(11)، وحكي لي عنه: أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهَّبةٌ، فلم يحضرها عنده، فوصفت له، فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها؛ إذ قد جاءه رجلٌ صوفي فأمر له بها، فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له، فإني أرجو أن أعوَّض عنها في الآخرة. فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمئة دينار، أو سبعمئة، وأنا أشك: أنها كانت تساوي أكثر(12).

5 ـ قال رضيع الخاتون «زوجة نور الدين»: إنها قلَّت عليها النفقة، ولم يكفها ما كان قد قرّره لها، فأرسلتني إليه، أطلب منه زيادة في وظيفتها (أي مخصصاتها المالية) فلما قلت له ذلك؛ تنكَّر، واحمرَّ وجهه، ثم قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي؛ فبئس الظن؛ إنما هي أموال المسلمين، ومرصدة لمصالحهم ومعدَّة لفتقٍ ـ إن كان ـ من عدو الإسلام، وأنا خازنهم عليها، فلا أخونهم فيها! ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاثة دكاكين مُلكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها. وكان يحصل منها قدر قليل نحو عشرين دينارا(13).

 

مراجع الحلقة الرابعة والتسعون:

(1) سنن الترمذي، كتاب الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح.

(2) المصدر السابق رقم 2320.

(3) المصدر السابق نفسه 2322 حسن غريب قاله الترمذي.

(4) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة رقم 867.

(5) من أخلاق النصر في جيل الصحابة د.السيد محمد نوح ص 48، 49.

(6) عيون الروضتين في أخبار الدولتين (1/261).

(7) الباهر ص 164 دور نور الدين محمود في نهضة الأمة 128.

(8) الكواكب ص 53 ـ 54 نور الدين محمود ص 39.

(9) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 39.

(10) البرق ص 143 ـ 144 نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 40.

(11) الباهر ص 164 نور الدين محمود 40.

(12) الباهر ص 165 نور الدين محمود ص 40.

(13) الباهر ص 164 نور الدين محمود ص 40.

 

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022