(فوائد متنوعة من كتاب البداية والنهاية في عهد إمارة عماد الدين زنكي)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 81
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأول 1444 ه/ ديسمبر 2022م
1 ـ في سنة 523هـ قال ابن كثير: في هذه السنة قتل صاحب دمشق من الباطنية ستة الاف، وعلَّق رأس كبيرهم على باب القلعة، وأراح الله أهل الشام منهم، وفيها حاصرت الفرنج مدينة دمشق، فخرج إليهم أهلها فقاتلوهم قتالاً شديداً، وبعث أهل دمشق عبد الوهاب الواعظ ومعه جماعة من التجار إلى بغداد يستغيثون بالخليفة ،
وهمّوا بكسر منبر الجامع، حتى وعدوا بأنهم سيكتبون إلى السلطان ليبعث جيشاً كثيفاً نصرة لأهل الشام فلم يبعث إليهم جيش حتى نصرهم الله من عنده، فهزمهم المسلمون، وقتلوا منهم عشرة الاف، ولم يفلت منهم سوى أربعين نفساً ولله الحمد والمنة، وقتل بَيْمنَدْ الفرنجي صاحب أنطاكية(1).
2 ـ وفي أحداث عام 524هـ: فيها كانت زلزلة عظيمة بالعراق، تهدمت بسببها دور كثيرة ببغداد، ووقع بأرض الموصل مطر عظيم، فسقط بعضه ناراً تأجَّجُ، فاحترقت دُورٌ كثيرة من ذلك، وتهارب الناس. وفيها وجد ببغداد عقارب طيّارة لها شوكتان، فخاف الناس منها خوفاً شديداً. وفيها ملك عماد الدين زنكي بلاداً كثيرة من الجزيرة، ومن بلاد الفرنج، وجرت له معهم حروب طويلة، وخطوب جليلة، ونُصر عليهم في تلك المواقف كلِّها، ولله الحمد والمنة، وقتل خلقاً من جيش الروم حين قدموا إلى الشام، ومدحه الشعراء على ذلك(2).
3 ـ وفي عام 524هـ توفي إبراهيم بن عثمان، أبو إسحاق الكَلْبيُّ هو من أهل غزَّة، وقد جاوز الثمانين من عمره، وله شعر جيد. ومن شعره في الأتراك قوله:
في فتنة من جيوش التركِ ما تركت
للرَّعْدِ كَرَّاتُهُمْ صوتاً ولا صِيتا
قوم إذا قُوبلوا كانوا ملائكة
حُسناً وإنْ قُوتِلُوا كانوا عفاريتا(3)
وله أيضاً:
إنَّما هذه الحياةُ متاعٌ
والسَّفيهُ الغَوِيُّ من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمَّلُ غَيْبٌ
ولك الساعة التي أنت فيها(4)
وفي سنة 525هـ توفي أحمد بن محمد، أبو نصر الطوسي، سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان شيخاً لطيفاً عليه نورٌ، قال ابن الجوزي: أنشدني:
فإن نلت خيراً نِلْتهُ بعزيمة
وإن قصَّرَت عنك الخطوب فعن عُذرِ(5)
قال: أنشدني أيضاً:
لبستُ ثوب الرَّجا والناس قد رَقدُوا
وقمتُ أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلتُ يا عُدَّتي في كلِّ نائبة
ومن عليه لكشف الضُّرِّ أعتمدُ
وقد مددت يدي والضُّرُّ مُشتملٌ
إليك يا خير من مُدَّت إليه يدُ
فلا تَرُدَّنَّها يا رَبِّ خائبةً
فبحرُ جُودِك يرْوِي كل من يَرد(6)
5 ـ وفي سنة 527 هـ اقتتل الفرنج فيما بينهم قتالاً شديداً، فمحق الله منهم خلقاً كثيراً، وغزاهم فيها أيضاً عماد الدين زنكي، فقتل منهم ألف قتيل وغنم أموالاً جزيلة، ويقال لها: غزاة أسوار(7). وفي نفس السنة توفي محمد بن أحمد بن يحيى، أبو عبد الله العثماني الدِّيباجي، وكان ببغداد يُعرف بالمقدسي، وتفقه ووعظ الناس ببغداد. قال ابن
الجوزي: سمعته ينشد في مجلسه قوله:
دعْ جفوني يَحِقُّ لي أن أَنُوحَا
لم تَدَعْ لي الذنُوبُ قلباً صحيحا
أخْلَقَتْ بهجتي أكف المعاصي
ونَعاني المشيب نعياً فصيحا
كلما قُلتُ قد بَرا جُرحُ قلبي
عاد قلبي من الذنوب جَريحا
إنما الفوز والنعيمُ لعبد
جاء في الحشر امناً مُستَرِيحا(
وفي سنة 533هـ توفي علي بن أفلح الكاتب، وقد خلع عليه الخليفة العباسي المسترشد، ولقَّبه جمال الملك، وأعطاه أربعة دور، وكانت له دار إلى جانبهن فهدمهن كلَّهنَّ، واتخذ مكانهن داراً هائلة طولها ستون ذراعاً في عرض أربعين، وأطلق له الخليفة أخشاباً واجُرَّاً، وذهباً فبناها، وغرم عليه ابن أفلح مالاً جزيلاً، وكتب على أبوابها وطرازاتها أشعاراً حسنة من نظمه، ونظم غيره فكان على الطُّرُزِ مكتوب(9):
ومن المروءة لـــلفتى
ما عاش دار فاخرة
فاقنع من الدنيا بها
واعمل لدار الاخرة
هاتيك وافية بما
وعدت وهذي ساحرة(10)
وفي موضع اخر مكتوب:
ونادٍ كأنَّ جنَانَ الخلود
أعادته من حُسْنِها رَوْنَقَا
وأعطته من حادثات الزمان
أن لا تُلِمَّ به موتِقا
فأضحى يتيه على كلِّ ما
بُني مغْرِباً كان أو مشرقا
تظلُّ الوفود به عُكَّفاً
وتُمسي الضيوف به طُرَّقا
بقيتَ له يا جمال الملوك
والفضل مهما أردت البقا
وسالمه فيك ريب الزمان
ووُقِّيت منه الذي يُتَّقَى
فما صدقت هذه الأماني، بل عمّا قريب ـ بعد نيلها ـ اتَّهم الخليفة ابن أفلح بأنه يكاتب دُبَيساً، فأمر بتخريب هذه الدار، فلم يبقَ فيها جدار، وصارت خرابة بعد ما كان قد حَسُن منها المقام والقرار، وهذه حكمة من يقلِّبُ الليل والنهار، وتجري بمشيئة الأقدار(11).
وفي سنة 535هـ توفي محمد بن الباقي بن محمد بن كعب بن مالك الأنصاري، وكان مشاركاً في علوم كثيرة وقد أُسِرَ في صغره في أيدي الروم، فأرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر، فلم يفعل، وتعلَّم منهم خط الروم، وكان يقول: «من خدم المحابر خدمته المنابر» ومن شعره الذي أورده ابن الجوزي وسمعه عنه قوله:
احفظْ لسانك لا تَبُحْ بثلاثة
سنٍّ ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تُبْتَلى بثلاثة
بمُكفِّرٍ وبحاسد ومُكذِّب
ومن ذلك قوله:
لي مُدَّة لا بُدَّ أُبلغها
فإذا انقضت وتصرَّمت مِتُّ
لو عانَدَتني الأسدُ ضاربةً
ما ضرَّني ما لم يَجي الوقت(12)
ومن ذلك قوله:
بغدادُ دارٌ لأهل العلم طيبةٌ
وللمفاليس دار الضَّنْك والضِّيقِ
ظللت حيران أمشي في أزقتها
كأنني مصحفٌ في بيت زنديق(13)
قال ابن الجوزي: بلغ من العُمر ثلاثاً وتسعين سنة لم تتَغيَّر حواسه، ولا عقله، وكانت وفاته ثاني رجب من هذه السنة، وحضر جنازته الأعيان، والناس، ودفن قريباً من قبر بشر(14).
مراجع الحلقة الواحدة والثمانون:
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/167).
(2) البداية والنهاية (16/284).
(3) المصدر نفسه (16/285).
(4) المصدر نفسه (16/286).
(5) المصدر نفسه (16/286).
(6) البداية والنهاية (16/289).
(7) البداية والنهاية (16/289).
(8) المصدر نفسه (16/298).
(9) المصدر نفسه (16/323).
(10) المصدر نفسه (16/323).
(11) المصدر نفسه (16/324).
(12) البداية والنهاية (16/329).
(13) المصدر نفسه ص (16/330).
(14) المصدر نفسه (16/330).
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي