(المحكمة العليا في دولة نور الدين زنكي)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 112
بقلم: د. علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ مارس 2023م
كانت قمة إجراءاته القضائية إنشاءه داراً في دمشق، لكشف المظالم سمَّاها (دار العدل)، وكانت أشبه بمحكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين، ثم عُمِّمَتْ صلاحياتها، فامتدت أقضيتها إلى سائر أبناء الأمة، وقد جاء إنشاؤها بسبب تزايد عددٍ من كبار الأمراء في دمشق، وبخاصة أسد الدين شيركوه، وتماديهم في اقتناء الأملاك، وتجاوز بعضهم حقوق البعض الاخر، فكثرت الشكوى إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري، فأنصف بعضهم من بعض، لكنه لم يقدر على الإنصاف من شيركوه، فأنهى الحال إلى نور الدين، فأصدر أمره حينئذٍ ببناء دار العدل(1).
يقول ابن الأثير: فلما سمع شيركوه ذلك؛ أحضر نوابه جميعهم، وقال لهم: اعلموا: أنَّ نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلا بسببي وحدي، وإلا فمن هو الذي يمتنع على كمال الدين؟ والله لئن حضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لأصلبنّه، فامضوا إلى كلِّ من بينكم وبينه منازع في ملكٍ، وافْصِلوا الحال معه، وأرضوه بأي شيء أمكن، ولو أتى على جميع ما بيدي. فقالوا له: إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا في الطلب. فقال: خروج أملاكي من يدي أسهل عندي من أن يراني نور الدين بعينٍ أني ظالمٌ، أو يساوي بيني وبين أحد العامة في الحكومة (أي: القضاء)، فخرج أصحابه من عنده، وفعلوا ما أمرهم، وأرضوا خصماءهم، وأشهدوا عليهم، فلما وخمسمئة(2)، وأما النصارى المتواجدون في دولة نور الدين، فإنهم لم يمسُّوا بأذى ـ رغم ظروف الصراع الإِسلامي الصليبي ـ وعوملوا كمواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، ولم يُعْرَف عنه(3): أنه هدم في حياته كنيسة، ولا اذى قساً، أو راهباً، وقد كان الصليبيون إذا دخلوا بلداً، قتلوا جلَّ أهله المسلمين ولو أنه تأثر بذلك، وعاملهم بالمثل؛ لقام له في ذلك عذر، ولكنه كان إنساناً عظيماً، لا يقيس نفسه بأولئك الجفاة الذين أساؤوا؛ حتى إلى نصارى البلاد، فظلت الكنائس في بلاده عامرةً بأهلها، بل إن الصليبيين كانوا إذا خرجوا في بلد تنفَّس نصاراه الصعداء، وأمنوا إلى عدله وإنصافه(4).
مراجع الحلقة الثانية عشر بعد المائة:
(1) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 76.
(2) المصدر نفسه ص 78.
(3) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 78.
(4) نور الدين محمود حسين مؤنس ص 367 ـ 368.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي