السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

(مفهوم الفقه وغرض الفقيه)

اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: العاشرة

ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م

 

يُستعمل لفظ الفقه بمعنى: فِقهُ أحكَامِ المسائلِ التَّفْصِيلِيَّةِ مِن العِبَادَاتِ أَو المعَامَلاتِ. وهي المسائل التي تكلَّم الفقهاء في أحكامها وأدلَّتها، سواء كانت مِن مَعَاقِدِ الاتفاق وموارد الإجماع، أو كانت مِن مسائل الخلاف بين الأئمَّة والفقهاء، وهذا مِن الفقه في الشريعة، ولكنه ليس كلَّ الشريعة، ولا كلَّ الفقه.

ولا جدال في اعتبار هذا اللون مِن الفقه، ولا في فضله، بل الشأن في قَصْرِ قاعدة الفقه ونظامه عليه.

فحين يكون النظرُ في مسألة خاصَّة مِن آحاد مسائل الفروع، فإن هذه المسائلَ تظَلُّ مقصورةً على مَحَلِّها، ولا يتعدَّى حكمها إلى التعلُّق بما هو مِن ثوابت الشريعة وقواعدها، وحقوق الأُمَّةِ العامَّة ومصالحها.

ومع هذا ترى في مِثْلِ هذه المسائل عنايةً لدى الناظرين مِن الشيوخ والطلبـة المتفقِّهين، وتجد سَبْرَ الأدلَّة وتحقيقها، وجَمْعَ الأقوال، وتحصيل الراجح، وإطالة النظر في اعتبار الحكم وتحقيق مناطه، وترى مَن ليس من أهل الاختصاص بهذا العلم يقع له هيبةٌ وإحجام عن القول فيها؛ لما يُوْجِبه ذلك من الافتيات على الشريعة، ولذلك يذم من اقتحم القول فيه وهو ليس من أهل الاختصاص والرسوخ.

لكن ما هو أولى بالذَّمِّ مِن هذا، ما يَعْرِض لبعض الناظرين والطالبين مِمَّن يَتَخَوَّضُ في تقرير أحكام النوازل، وبناء المواقف على اعتبارات شرعيَّة، وهو لم يحقِّق ما تقتضيه أصولُها وقواعدُها من الفقه والاستنباط، مع أنها قد تكون مواقفَ تُعَدُّ بحقٍّ فواصلَ في تاريخ الأُمَّةِ.

إنَّ مِن نَقْصِ الفقه في دين الله أن يصير الناظر أو المتكلِّم إلى مسألة مُفَصَّلَةٍ قد جمع العلماء حكمَها ودليلَها وقاصيها ودانيها؛ فيُمْعِن النظرَ ويُطِيل النَّفَسَ في التحصيل، وربما تكلَّف بعضُهم فوقَ قَدْرِ المسألة عند العلماء، لكنَّه حين يصير إلى قولٍ في قضيَّةٍ عامَّةٍ مركَّبةٍ مُعَقَّدةٍ يأخذُها بظاهر النظر، ويهجم عليها بلا تَرَدُّد ولا رويَّة، حتى إنَّ قضايا النوازل تُصْبِحُ مادَّةً لحديث كلِّ أحدٍ في أسبابها ومفاصلها ومآلاتها، ويَصْدُق هنا قولُ ابنِ عمر رضي الله عنهما لبعض أهل العراق: «ما أَسْأَلَكم عن الصغيرةِ! وأَجْرَأَكم على الكبيرة!».

والغريبُ أنَّ مسائل النوازل حين تكون مِن جنس المسائل الـْمُفَصَّلة التي تكلَّم فيها الفقهاء، لا يقَعُ فيها استعجالٌ في الغالب؛ لتجرُّدِها عن المقارنات العامَّة، ولِقُرْبِ شَبَهها بالمسائل الـْمُفَصَّلة المعروفة عند الفقهاء، لكن حين تكون النازلة حَدَثًا عامًّا، وتكون مادَّتها مُرَكَّبةً مِن مؤثِّرات شتَّى، فكأن هذه الـْمُؤَثِّرات جُرِّدَت عنها هيبة الشريعة؛ فيصير القول فيها عند كثير مِن العامَّة وبعض الخاصَّة مِن جنس القول في المسائل المبنيَّة على تَوْسِعة الشريعة وبُحْبُوحتها، والتي يُدْرِك فقهَها جمهورُ أهل الإسلام، ويفوت على هؤلاء ما يقتضيه الموقف مِن الأثر المتعلِّق بحقوق الأُمَّة الكليَّة وضروراتِها التي جاءت الشريعة بحفظها وتحصيلها.

إن الموقف هنا يجب أن يكون مُحَصَّلًا مِن أدلة الشريعة بحقٍّ، مبنيًّا على قواعد الهدى والرحمة التي بُعث بها عليه الصلاة والسلام.

وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لما حَصَرَ رسول ﷺ الطائفَ فلم يَنَلْ منهم شيئًا؛ قال: «إنَّا قافلونَ غدًا إن شاء الله». فَثَقُل عليهم، وقالوا: نذهبُ ولا نفتحُه. فقال: «اغدوا على القتالِ». فَغَدَوا؛ فأصابهم جراحٌ، فقال: «إنا قافلون غدًا إن شاء الله». فأعجبَهم، فضحكَ رسولُ اللهِ ﷺ .

وفي هذا الحديث من الفقه: أن بعض النفوس المؤمنة، لصِدْقِ يقينِها، تتطلَّب مقامَ الصبر والبلاء في ذاتِ الله، ولا يلزم أن يكون هذا الأمر مقصودًا للشريعة، ومعلومٌ أنَّ الرسولَ ﷺ أكملُ تحقيقًا لمقام الجهاد والصبر والصدق من غيره، لكن لكمال عِلْمِه لم تَغْلِب عليه حالٌ واحدة، بل وازن بين الأحوال المقارنة للموقِف، فراعى مصلحة الجهاد، وراعى حقَّ أصحابه رضي الله عنهم، وراعى قوَّتهم وتحمُّلَهم في هذا الموقف الخاص.

إن الكثير مِن الحوادث والنوازل يكون لها أبعاد قريبة يُدْرِكها كلُّ أحد، ويتكلُّم فيها العالِمُ وغيره، وهذه مِن الوضوح والإحكام بحيث لا تكون مَحَلَّ تَرَدُّد، لكنَّها لا تستأثر بالحكم والبتِّ؛ لأنَّ ثَمَّة جوانبَ أخرى ترفَعُ المسألةَ عن كونها من الفرعيات اليسيرة، وتتطلَّب أن يَلْزَمَ المسلمُ جانبَ التحوُّطِ والهيبة والورع؛ حمايةً لدينه وتقواه، ورعايةً لحقوق الأُمَّة ومصالِحها وحاضرِها ومستقبلِها.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 39-36


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022