(مفهوم الاجتهاد في الموقف الشامل، وأدب أهل الاجتهاد فيه)
اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الحادية عشر
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
حقيقة الاجتهاد في النوازل هو: رَدُّ حُكمِ النَّازِلَةِ إِلَى قَضَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.
وهذا مقامٌ يختصُّ بتمام الفقه فيه أهلُ العلم بالشريعة، وقد تستدعي كثيرٌ من النوازل العلمَ بما يلابسها ويقارنها من الأحوال التي لا تنفكُّ عنها، فالحكمُ على الشَّيء فرعٌ عن تصوُّرِه، وهذه مِن قواعد النظر الـْمُسَلَّمَةِ.
ولذا فإن تجريد الْحَدَثِ عن لوازمه وارتباطاته مِن المعارف والأحوال؛ يُعدُّ نقصًا في التصوُّر، ينتج عنه تأخُّرُ الحكم عن مرتبة الصحَّة.
ومما يَعْرِض لبعض الناظرين استعمالُ ما هو مِن مُفَصَّل الأدلَّة (الدليل الجزئي)، لتخريج النازلة على أحد الفروع المقولة لدى الفقهاء في مُصَنَّفاتهـم، وهذا مِن حيث الأصل هو مِن الاجتهاد المناسب؛ لكن مَحَلَّ الـمُؤَاخَذة حين يستعمل في حكم الحوادث العامَّة الـمُعَقَّدة والتي تتنازعها مؤثِّرات عديدة؛ فيجرِّدُها الناظرُ مِن كلِّ ذلك، ويُخرِّجُها مع فرع فقهيٍّ مخصوص -وربما كان مِن موارد الخلاف بين الفقهاء- ثم يجعل هذا مُنْتَهى البحث والنظر.
ولعلَّ هذا أثرٌ للقصور عن تحصيل فقه المقاصد، ومراعاته في اعتبار الأحكام.
لذلك فإنه وإن حَسُنَ اعتبارُ الفروع، والتخريج على المناسب منها في النوازل؛ فإنه لا بدَّ مع ذلك من اعتبار مقاصد الشريعة وقواعدها العامة المذكورة في كلام الله ورسوله ﷺ، ومَعَاقد إجماع أهل العلم، فإن ذلك أصل في أحكام النوازل العامَّة والاجتهاد فيها.
ومعلوم أنَّ مِن مادَّة أصول الفقه والقواعد الفقهية المقولة في كتب هذا الفنِّ ما هو من مَوارد الاجتهاد والنظر، وهذا يستدعي أنَّه وإنْ أمكن اعتباره؛ فإنَّ هذا لا يعني قَصْر التحصيل عليه.
ولهذا نرى في سُنَّة الخلفاء الراشدين، وأئمَّة الفقه والحديث، العنايةَ بتحقيق هذا الاعتبار فيما يَعْرِض لهم من النوازل.
ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغٍ لَقِيَه أهلُ الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباء قد وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين. فدعوتُهم. فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجْتَ لأَمْرٍ، ولا نرى أن ترجِعَ عنه. وقال بعضُهم: معك بقيَّةُ الناس وأصحابُ رسول الله ﷺ، ولا نَرى أنْ تُقْدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادْعُ لي الأنصارَ. فدعوتُهم له، فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادْعُ لي مَن كان هاهنا مِن مَشْيَخَةِ قريش مِن مُهَاجِرَةِ الفتح. فدعوتُهم، فلم يختلفْ عليه رجلان؛ فقالوا: نرى أن ترجِع بالناس، ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء، فنادى عمرُ في الناس: إني مُصْبِحٌ على ظَهْرٍ؛ فأصبحِوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أَفِرَارًا مِن قَدَرِ الله؟! فقال عمرُ: لو غيرُك قالَها يا أبا عبيدة!- وكان عمرُ يكرُه خلافَه- نعم! نَفِرُّ مِن قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله.
وقد صدَّقت روايةُ عبد الرحمن بن عوف المرفوعة هذا الاجتهادَ الراشديَّ. وفي هذا الأثر من الفقه:
1- أَخْذ أمور العامَّة بَعْزمٍ وتأمُّل ومراجعة.
2- قبول اختلاف المجتهدين في النوازل؛ فإنَّ المهاجرين والأنصار وهم مادَّة الصحابة ومُقَدَّمُوهم اختلفوا، ولم يُحْفَظْ بينهم في هذا الاختلاف تذامٌّ، ولا تطاعن، ولا تضييق لمقام الاجتهاد. وكأنَّ أهلَ الشوكة والصبر فيهم كانوا يميلون إلى الـْمُضِيِّ وعدم الرجوع، وأهل الفقه -في الجملة- يميلون إلى الرجوع، وهؤلاء أَعْرَفُ بمقام الشريعة، والأَوَّلون غَلَب عليهم تعظيمُ مقام الإرادة والعزم في نصرة الإسلام بالسيف.
3- تَرْكُ العنت الذي لا يُستطاع، وعدم ابتلاء بقيَّة أهل العلم والإيمان والجهاد بـه، وقريبٌ مِن هذا المعنى سَبَقَ في خَبَرِ حصار الطائف.
وهذا الأثرُ وأمثالُه يدلُ على أن تحصيل الموقف الشرعيِّ لا بدَّ أن يتحقَّق في صاحبه ديانةٌ وعلمٌ وفِقْهٌ وأناةٌ؛ فإن مقام الديانة يدفع الظلم، ومقامَ العلم يدفع الجهلَ، وهما مُوجِبا الخطأ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾. كما قَرَّر هذا المعنى في الآية الإمام ابن تيمية رحمه الله.
والقول في مواقف الأُمَّة مِن أعظم الأمانة التي تنوء بحملها الجبالُ، وإنَّ مِن تقوى القلوب ألا يتحدَّث في المواقف العامَّة مَن لم يَزِن قولَه بميزان الشريعة.
إنه لا يكفي لموافقة الشريعة أن يكون الموقف مبنيًّا على مقام الصدق وحسن الإرادة، دون أن يتحقَّق له مقامُ العلم والمعرفة؛ فإن مقام العلم هو الذي يحقِّق موافقةَ مرادِ الشريعة، وليس مقام الإرادة وصدق النية.
ولهذا أمر الله تعالى باعتبار العلم عند الحوادث والنوازل، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِن الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، وأولو الأمر هم: أهل الإدارة والحُكم، ويدخل فيهم أهل الفقه في الدين، وهم أولو العقل والفَهْم، كما ذكره ابن جرير عن بعض مُتَقَدِّمي العلماء.
إنَّ مما يَفُوتُ على كثير مِن العامَّة وبعضِ الخاصَّة، عدمُ تحقيق الردِّ إلى الله والرسول ﷺ، ولئن كان مظنونًا في جملتهم حسنُ القصد وصلاح النيَّة في المواقف التي يتخذونها في حاضر الأمَّة وغابرها، إلا أنَّ التقصير في تحقيق العلم والفقه، ونقص قيمة الوعي وسلامة التفكير؛ هو مِن موارد الفتنة وموجبات الفساد.
ومَن يريد أن يكون له حَظٌّ مِن الاجتهاد في تقرير أحكام الشريعة في هذه النوازل، لا يصلح أن يكون فِقْهُهُ ومَدْرَكه من جنس فقه العامة ومَدْرَكهم وبَصَرِهم؛ فإنَّ الله تعالى قال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، بل هذه درجةٌ مخصوصةٌ من العلم، شأنُها كما قال الإمام الشافعيُّ في الرسالة: هذه درجة مِن العلم ليس تبلُغُها العامَّة، ولم يُكَلَّفْها كلُّ الخاصَّة، ومَن احتمل بلوغَها مِن الخاصَّة فلا يَسَعُهم كلُّهم كافَّة أن يُعَطِّلوها، وإذا قام بها مِن خاصَّتِهم مَن فيه الكفايةُ لم يُحْرِج غيرَه مِن تَرْكِها إن شاء الله، والفضل فيها لمن قام بها، لا مَن عَطَّلها.
ومما يَعْرِض لبعض أهل الاجتهاد في النوازل: المبالغةُ في مُنَازَعَة مَن يخالفه مِن ذوي العلم والدين، وهذا مِن ضعف الفقه؛ فإن اختلاف المجتهدين في مثل هذا أمرٌ تَفْرِضُه حالُ الحدث ومادَّتُه وطبيعتُه، مع تفاوُت الأفهام والمدارك والعلوم، وكثير مِن مُؤَاخَذة بعض القائمين على العلم والاجتهاد في المواقف العامة، هو عند التحقيق مِن غوائل النفس وضعف علمِها أو صِدْقِها، وليس تُوْجِبُ مثلَ هذا أصولُ الشريعة ونصوصُها، وترى أن الواقعَ في تلك المؤاخذة لا يَسَعُه أن يُعامَل رأيُه أو اجتهادُه بالطريقة التي يستعملها هو مع غيره مِن أهل العلم والدعوة، مِمَّن هم في كثير مِن الأحوال أعلم منه بهذه المقامات وأحوالها، وأظهر فقهًا. فهذا مِن أسباب مِثْلِ هذا التزاحُم في العذر والسَّعَة، وإنْ كان الغالبُ على مثل هذه الأحوال أنها مُرَكَّبة مِن جملة مِن الـْمُؤَثِّرات.
ومِن أسباب هذا التضييق لمقام الاجتهاد: أن يكون الحدث مركَّبًا مِن موادَّ شتَّى، ويكون منها وجه مُحْكَم ظاهر، يعرفه العامَّة والخاصَّة، ويعتبرونه، فيقصرون الأمر على هذا الوجه البيِّن، ولا يلتفتون إلى سواه.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 39-44