(التفاضل في التكليف)
اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الرابعة عشر
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
مِن الـمُتَحَقَّق أن سائر تكاليف الشريعة داخلة في مُسمَّى الإيمان وحقيقته؛ فإن الإيمان: قول وعمل، يعمُّ سائرَ القول الشرعيِّ، وسائر العمل الشرعيِّ، وهذا مفهوم مُتَّفَقٌ عليه بين الصحابة رضوان الله عليهم.
وثَمَّت حقيقة في هذا الباب، هي: أنَّ الـْمُكَلَّفين يتفاضلون في التكليف، أي: في الأمر والنهي، وهذا التفاضُل تارةً يكون سببُه خاصًّا، وتارة يكون عامًّا، وتارة يكون لازمـًا، وتارة يكون متعدِّيًا؛ فإنَّ الله خلقَ بني آدم، وجَعَلَهم درجاتٍ فيما آتاهـم، وابتلاهم حسب هذا الْخَلْقِ والتقدير؛ ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وإذا تحقَّق هذا القَدْرُ؛ فإنَّ من الفقه في المواقف العامَّة: اعتبارَ تفاضُل التكليف في الأمر الواحد، فإنَّ ما وجب على هذا لا يَلْزَم بالضرورة أن يجب على كلِّ أَحَدٍ يُقَدَّرُ في الظنِّ أنه مساوٍ له، فضلًا عمَّن عُلِمَ تفاوته معه في الحال والشأن.
وفقهُ تفاضُلِ التكليف يحصل بقدر مِن الاعتدال والوسطيَّة؛ فإنَّه يتكوَّن عنه تحقيقٌ لشموليَّة التكليف، ومراعاة مجموعة مقاصد الشريعة، وليس القصر على غرض واحد.
وحصول التعدُّدية في القول والعمل المحصَّل مِن شموليَّة الشريعة، هو المستوعِب لمساحات التفكير والعمل التي تتطلَّب مشاركةً يُقَدِّمُها أهل العلم والدعـوة؛ حتى لا يحاصِروا أنفسَهم في دائرة واحدة، ويراهنوا عليها تحت حساباتٍ قد تكون خاسرة، وحين يعيش هؤلاء هذا الضيقَ؛ تجد أنه ربما وقع نوعٌ من المراهنة على أقدارٍ هي من الغيب الذي لا يعلمُه إلا الله عز وجل، وهو راجع إلى مشيئته وحِكْمتَهِ.
وحين نَعتبرُ هذا المعنى في تفاضُل التكليف، فمِنَ اللازم: ألاَّ يُفتات على الشريعة بإيجاب ما لم يتحقَّقْ إيجابُه على المسلمين، أو نوعٍ منهم.
والأقدار الربانيَّة التي يُبْتَلى بها أهل الإسلام، تُدْفَع بما تأذَن به الشريعـةُ، وليس بما يُفرض مناسبـًا لدفعهـا، ولو كان فيه تخطٍّ لحدود الشرع والعقل؛ فإنَّ قصدَ مقام الدفع للشرِّ قد يقع معه كثيرٌ مِن البغي والعدوان؛ لأن النفسَ مائلةٌ إلى هذا بطبعها؛ مما يستدعي تمامَ التحرِّي والعدل والقصد والتسليم بقصور إرادة العبد عن دفع الفساد في الأرض من كل وجه؛ فإن هذا قَدَرٌ ماضٍ في الناس بما كسبت أيديهم، ومن الإيمان بقَدَرِ الله الإيمانُ بعلْمه بما سيكون؛ فإرادتُه وخَلْقُه مُتَّصِلان بعلْمه، وعلى هذا مضى القدر بما هو كائن، وجاء مثل قوله عز وجل: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
ويدخل تحت هذا الباب: أن سائر أحكام الشريعة مُعَلَّقة بالاستطاعة، وعند فَقْدِها يُرْفَعُ التكليفُ، وهذا معروفٌ في المسائل اللازمة؛ لكن قد يخفى على كثيرين طردُه في الأحوال المتعدِّية، وأصله مَحَلُّ إجماع ظاهر.
فتحقيقُ شَرْطِ الاستطاعة وفِقْهها في اعتبار المشروع، مِن أقوم الفقه وأنفعه؛ فإنَّه مِن المعلوم: أن غيرَ المقدور عليه ليس مِن موارد التكليف الشرعيِّ.
ومِن اعتبار الفقه بالتكليف: الموازنةُ بين القضاء الشرعيِّ والقضاء القَدَرِيِّ، وأنَّ الأحكام الشرعيَّة لا تُجَرَّد عن اعتبار السنن الكونيَّة القدريَّة؛ لكنْ ليس مِن الفقه تحصيلُ هذا بمَحْضِ هذا؛ ولهذا ثَبَتَ التكليف فيما عُلِم مُضِيِّ القَدَرِ بخلافه، مِن جهة كَوْن التكليف جاء مُشَاعًا في مورد مِن الإمكان لا يلزَم عليه معارضةُ القضاء الشرعيِّ للقضاء الكونيِّ.
ومن المعلوم عند علماء السنن أنَّه: ليس ثَمَّتَ تَلَازُمٌ بين الإرادة الشرعيَّة والإرادة الكونيَّة القدريَّة، ومِن فِقْهِ: هذا أنَّ ما عُلِمَ بالاجتهاد من القضاء الشرعيِّ، لا يُجْزَم بلزوم مطابقة القضاء القدريِّ له؛ فإن القضاءَ القدريَّ غيبٌ مَحْضٌ مبنيٌّ على العلم المطلق والحكمة الشاملة، وهذا مِن خصائص الربوبيَّة ومقامات التوحيد التي ربما غلطَ مَن غلط في الافتيات عليها.
فمن ذلك: حينما يُفْرَضُ التلازمُ بين (الحقِّ، والنصر)، يُقدِّم كثيرون معادلة: إنَّ هذا حقٌ. إذًا: لا بدَّ مِن مُشاهدة النصر في مدى عمرنا المحدود، ورؤيتنا الخاصَّة؛ لأن الحقَّ منصور!! وصاحب هذا التصوُّر لا يستطيع التفريق بين المفاهيم المبدئيَّة والمفاهيم التطبيقيَّة!
إن مبدأ (الحقُّ منصور) قَدَرٌ مُؤَكَّد؛ لكنْ يتأخَّر الإدراك لماهيَّة هذا المبدأ، التي هي الشكل التطبيقيُّ لماهية (الحقَّ)، وماهيَّة (النصر).
فهنا معنًى مهمٌّ يجب أن نُدْرِكه: وهو أن القيم المبدئيَّة ليست هي المحاولة التطبيقيـَّة لهذه القيم، فهذا قَدَرٌ تكليفيٌّ تحته دراسة واسعة لمدى شرعيَّة الموقـف في الأمر نفسه، وليس خيارًا نُصِرُّ عليه، ونُلِحُّ على اعتباره.
قد نستطيع الإلحاح على الناس أنَّ تَصَرُّفَنا شرعيٌّ؛ لكن مِن المهمِّ أن نُدْرِك: أنه قد لا يكون كذلك مِن كلِّ وجه، وهذه أوَّلُ عقبة مانعة من النصر؛ لحقيقة يسيرة: وهو أن القول: بأنه ليس ثَمَّتَ حقٌ، إذا لم يكن ثَمَّتَ نَصْرٌ، هو شكل مِن الخلل.
ومِن المهمِّ أن نعيَ حقيقة النصر وماهيَّته وأشكاله وصوره، وأنَّ السنن الكونيَّة قضاءٌ لله سبحانه، وليست استجابة لاجتهاداتنا حتى لو كنَّا صادقي النيَّة والعمل؛ فأَمْرُ الكون ومصلحتُه حُكْمٌ لله وحدَه، ولا يحيط بعلمه إلا هو، وهذا يستدعي ألَّا نُعْطي مواعداتٍ ونبوآت للناس مقابلَ الامتثال لاجتهادٍ رأيناه.
إنَّ الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يتجاوزوا إلى رَسْمِ الوعد الذي يختصر خيارات الذات، ويجعل الإنسان انتظاريًّا خلاصيًّا.
هذه غفلة عن حكمة الاستخلاف في الأرض، والأنبياء عليهم السلام كانوا يأمرون الناس بالتقوى، ويَعِدُونهم بالجنة، وفي الرسالة الخاتمة كان الوعد بتمكين الدين ذاته لا غير.
إننا نحتاج إلى ترتيب المفاهيم التي نعرفها، وإلى فِقْهِها باعتدال، وأن نستقرىء المنهجَ الشرعيَّ في بناء الذات، والتخلُّص مِن حاكميَّة الطباع؛ لنحقق العبوديَّة لله وحده.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 56-61