(في مسألة الموازنة بين القصد والولاء وبين الفقه والتصور)
اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثالثة عشر
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
القصد والولاء هو مِن باب الإرادة والعمل، والفقهُ والتَّصوُّر هو مِن باب العلم والمعرفة.
وكلا البابين من الإيمان، فإن الإيمان قول وعمل، كما قـرَّره سلف هذه الأمَّة وأصَّلُوه، وهما مِن مُعْتَبَر الشريعـة في اتخاذ الحُكْم والموقف، ولا بدَّ فيهما مِن الموازنة.
فالإرادة إذا تجرَّدت عن العلم تحصَّل منها مخالفة للشريعة وأحكامها.
والعلم إذا تجرَّد عن الإرادة؛ تحصَّل منه مخالفةٌ للشريعة من وجه آخر.
والناظرون من أهل الإسلام اليومَ لهم مقام محمود في بابَيْ الإرادة والعلم بحمد الله، ولكن ما يقع فيه شيء من الفَوْتِ والقصور لبعضهم هو الموازنة وضبط الاعتدال بين الولاء والتصوُّر، أو بين الفقه والقصد، أو بين العلم والعمل.
فترى بعضَ المواقف ناتجةً عن أَثَرِ الولاء الذي هو بذاته حقٌّ، وهو أحد أوجه الْحُكْم في النازلة، ولكنَّه لا يستقلُّ به، ومِن هنا يكون الحكم حكمًا ولائيًّا عاطفيًّا، ليس فيه مادَّة تناسبه من الفقه والعلم والتصوُّر اللازم شرعًا.
وترى مواقف أخرى تَعْتَبِر بالعلم والفقه فحَسْب، وتَقْصُر عن مقام الإرادة والولاء، فيدخل بذلك على الْحُكْم قصورٌ عن موافقة الشرع.
وبيان هذا المعنى: أنَّ علمَ الشريعة مَبْنِيٌّ على الرحمة، والرحمةُ من مقامات الإرادة؛ ولهذا قال تعالى لما ذكر قصة موسى والخضر عليهما السلام: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِن عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُنَّا عِلْمًا﴾، فجمع بين مقام العلم والفقه، وبين مقام الرحمة التي هي من الإرادة.
ولهذا كانت الكتب الـْمُنَزَّلة على الأنبياء مشتمِلة على هذا التركيب والتوازن بين الولاء والتصوُّر، كما في قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾.
وقال عن كتاب نبيِّنا محمد ﷺ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّه لَهُدَى وَرَحْمَةً لِلمُؤمِنِينَ﴾. فجمع بين كشف الاختلاف الذي جرى لبني إسرائيل، وهو العلم، وبين الرحمة، وهذا في القرآن كثير، وهو مُعَبَّر عنه في مواضع بالهدى ودين الحق، أي: العلم النافع والعمل الصالح، كما فَسَّره بذلك كثير من السلف والأئمَّة.
والموازنة بين الإرادة والعلم في تقرير الْحُكْم وضَبْطِ الموقف في النوازل والمسائل العارضة، هو مِن التحقيق لأدب الشريعة، والاتِّباع لآثار الرسل، ولهذا كان محمد ﷺ رحمة للعالمين، ووُصِفَ الكتابُ بالرحمة في غير موضع، مع أنَّه هُدًى ونور.
إن في بعض النفوسِ ميلًا إلى الشوكة والـْمَنعة والتحريب والنكاية، وربما غَلَبَ عليها لذلك باب الإرادة والفعل، فلا ترى إلا ما اقتضته طبيعتها، وتغفل عن غيره من أوجه النظر.
وفي بعض النفوس ميلٌ إلى العلم والمعرفة والنظر؛ فيَعْرِض لها مِن الأحوال المترتِّبة على ذلك ما يناسبها، وتقصر أو تغفل عمَّا سواه، مما هو من مُرَاد الشريعة، وفي بعض النفوس ميلٌ إلى القوَّة والشِّدَّة، وفي أخرى ميلٌ إلى اللين والسلامة، وهكذا..
ومعلوم أن تجريد النفوس عن ميلها الفطري ليس مقدورًا عليه في الجملة؛ ولذلك جاءت الشريعة بالأمر بالموازنة بين ما هو حقٌّ بذاته، والأمر بدفع ما ليس بحقٍّ، فإنه يَعْرِض للنفس في باب العلم، وفي باب الإرادة ما هو نوع شبهة أو تأويل، والله تعالى خلق النفوس وسوَّاها، وألهمَها فجورَها وتقواها.
وإذا كان من الـْمُقَرَّر في الشريعة النهيُ عن اتخاذ العلم بغيًا بين أهله، ولو كان قول الباغي مُعْتَبَرًا موافِقًا في الأصل، إلاَّ أنَّ البغيَ زيادةٌ طارئة مذمومة؛ فكذلك من بابِ أولى أنَّ الشرع يمنع اتخاذَ أحوالِ النفوس المختلِفة بين بني آدم سببًا للبغي والعدوان.
وكما أن مِن الناس مَن يبغي بما معه مِن العلم المصدَّق، فإنَّ منهم مَن يبغي بما معه مِن أحوال النفس وطبائعها، وقد تكون بعض هذه الأحوال محمودةً في الجملة، كالقوة أو الشجاعة أو الصبر أو الكرم؛ لكن لا يلزم أن تكون محمودة في كلِّ الموارد، ولا يجوز أن يبغي بها صاحبها على مَن ليس مِن أهلها.
وبعض الناس قد يبغي بما معه مِن القول الذي هو مِن باب الظنِّ والاحتمال، وليس مِن العلم المصدَّق.
ومثله مَن يبغي بما معه مِن أحوال النفس التي ليست محمودةً في الشريعة، فضلًا عن البغي ببعض الظلم والهوى.
وإذا تقرَّر ذمُّ الله تعالى لمن اتَّخذ العلمَ الصادق الذي بعث الله به رُسُلَه بغيـًا على غيره، فغيرُه أولى بهذا الذمِّ وأجدرُ.
والبغي له صور وأمثال، وهو مِن المعاني التي يعرفها الناس، وليس تُخْفِيها الحروفُ ولا صيغةُ الكلام..
ولهذا كان مِن فقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تلقَّاه عنه أئمَّةُ الإسلام وفقهاءُ السنة: ألاَّ يُتَحَدَّث ببعض العلم المأثور لمن قَلَّ فقهُه، وتأخَّرَت رُتْبَتُهُ.
قال الإمام البخاريُّ رحمه الله: (باب مَن تَرَكَ بعضَ الاختيار مخافةَ أن يَقْصُرَ فَهْمُ بعضِ الناسِ عنه)، ثم أوردَ حديثَ عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال النبيُّ ﷺ: «يا عائشةُ، لولا قومُكِ حديثٌ عَهْدُهم -قال ابن الزبير: بكفرٍ- لَنَقَضْتُ الكعبةَ، فجَعَلْتُ لها بابين: بابٌ يدخلُ الناسُ، وبابٌ يخرجون». ثم بوَّب البخاريُّ رحمه الله: (باب مَن خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ؛ كراهيةَ أن لا يفهموا)، ثم ساق قولَ عليٍّ رضي الله عنه: «حَدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه!» .
وذكر الحافظُ أن المراد: بما يفهمونه، ثم ذَكَرَ أثرَ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه المرويَّ في «صحيح مسلم»: «ما أنت مُحَدِّثًا قومًا حديثًا لا تَبْلُغُهُ عقولُهم، إلا كان لبعضِهم فتنةً».
ثم ذكر عن أحمد ومالك وأبي يوسف، ومِن قَبْلِهم عن الصاحبِ الحافظِ أبي هريرة رضي الله عنه ما يُعَزِّز هذا المعنى.
ولعلَّ مِن لطيف فِقْهِ هذا الباب: أنَّ المرءَ قد يفرح بما يوافقه في باب مِن أبواب العلم -ومثله الفعل والإرادة- فيحجبه ذلك عمَّا هو أوسعُ وأنفعُ، ويحمِله ذلك على بَطَرِ الحقِّ وغَمْطِ الناسِ، والـْمُوَفَّق مَن وَفَّقَه الله
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 53-56