(إضاءات معرفية في فقه الأولويات)
اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: 14
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
فقه الأولويَّات بهذا الترتيب ليس معروفًا في كتب المتقدِّمين، فمهما قلَّبْتَ مِن كتب الفقه، أو الأصول، أو التربية، أو السلوك، فإنك لا تكاد تجد ذِكْرًا لهذا الاسم بتركيبه، ولكنَّك تجدُ كلمة «الفقه» التي هي كلمة أصيلة في القرآن والسنة، شديدة الاشتهار على ألسنة العلماء، كما في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾، وقول النبيِّ ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقِّهْه في الدِّين».
ويقصد بالفقه ما هو أوسع مِن العلم، وأوسع مِن الحفظ، فإن مجرَّدَ حفظِ النصوص لا يَعني بالضرورة الفقه فيها، و«رُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ، وربَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه».
ففي الصحابة رضي الله عنهم مَن تميَّزوا بالحفظ كأبي هريرة، لكن هناك مَن تميَّزوا بالفقه كابن عباس، ومعاذ بن جبل، وربما محفوظات أبي هريرة أكثر بكثير مما يحفظان، لكن ما نُقِل عنهما مِن الآراء والأقوال، والاجتهادات الفقهيَّة أكثر مما نُقِل عنه رضي الله عنهم، وفي كلٍّ خيرٌ.
فالفقه هو القدرة على الاستنباط مِن النصوص.
أما الأولويَّات: فيعبر عنها العلماء بـ «هذا أولى مِن هذا»، و«أنَّ هذا هو الأولى، أو هو الأحسن أو الأفضل»، ويرد هذا كثيرًا في كتبهم ومصنَّفَاتهم.
إنَّ كلمة «الأَوْلَى» تعني: الأحقُّ بالولاية، وبالتقديم، وهذه صيغة تفضيل تدلُّ على اشتراك الطرفين في الأفضليَّة، ولكن أحدَهما يتفوَّق على الآخر فيها.
ومِن هنا نستخرجُ درسًا مهمًّا، وهو أنَّ كلمة «فقه الأولويَّات» لا تعني إلغاء بعض الاعتبارات الشرعيَّة أو الدنيويَّة بحجَّة أنَّ غيرَها أولى منها، بل تعني أنَّ هذا الأمرَ المهمَّ وما دونه يشتركان في أصل الأهميَّة، لكن أحدهما -وهو الأولى- أكثر أهمية من الآخر.
فالأعمال الصالحة كالصلاة فيها أركانٌ، وواجباتٌ، وسُنَنٌ، ومستحبَّاتٌ، وكلُّ هذه مأمورٌ بفِعْلِها، إمَّا على سبيل الحتم والإيجاب، أو على سبيل الاستحباب، أو أنْ تكون مِن فِعْله ﷺ المأثور عنه.
وهكذا ما يُسمَّى بشُعَبِ الإيمان، فإنَّ هذه الشُّعَبَ أعلاها «قول لا إلهَ إلا اللهُ. وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان». كما قال النبيُّ ﷺ، فأعلى شُعَبِ الإيمان التوحيد، فإنَّه هو أعظمُ الأبواب وأعلاها وأولاها بالرعاية والاهتمام.
وأدنى شعب الإيمان: إماطة الأذى عن الطريق وما كان مِن جنسه، وكونه «أدنى»، لا يعني أنَّه ليس مطلوبًا، فإنَّه يظلُّ مِن خصال الإيمان التي ينبغي على الإنسان أنْ يرعاها ويعمل بها.
وهكذا أمور الحياة الدنيا، فإنَّ عند الإنسان أمور ضروريَّة لا بدَّ مِن فِعْلِها، وأمورٌ لها حاجة، ولكن يمكن الاستغناء عنها في حالات خاصَّة، وهناك أمورٌ قد تكون مِن باب التكميل والتحسين، وليس لها ضرورة ملزِمة.
إنَّ المقصود بفقه الأولويات: هو العلم بتفاضل الأعمال، ومعرفة أحقِّها بالتقديم.
أو: هو إدراك مراتب الأمر الشرعيِّ، وما يستحقُّ مِن المطالب الشرعيَّة أن يُقَدَّمَ ابتداءً، أو أنْ يُقَدَّم عند التزاحم، أو في حال معيَّنة:
1. فمِن الأشياء ما يستحقُّ أن يُقَدَّم مطلقًا: فالتوحيد والإيمان بالله تبارك وتعالى مِن الأمور المطلوبة ابتداءً وفي كلِّ حال، فهي أَوْلى الأشياء مطلقًا بالعناية والرعاية.
وأوَّلُ ما يُدْعى إليه هو الإيمان، كما في «الصحيحين» أن النبيُّ ﷺ قال لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا أهل كتابٍ فليكنْ أوّلَ ما تدعوهم إليه: شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ الله». وهنا أشار بكلمةِ «أَوَّل»، وهذا دليل على أولويَّة هذا الركن العظيم، وهو الإيمان؛ لأنَّ الإيمانَ شرطٌ للأعمال كلِّها، فلا يكون العملُ صالحًا إلا إذا سبقه الإيمانُ بالله عز وجل.
2. وأحيانًا يكون الفعل أَوْلى بالتقديم عند التزاحم: فإذا ضاق الوقت أو الفرصة أو الجهد، فلم يَعُدْ بمقدور الإنسان أن يجمع بين الأمرين؛ فهنا يُقَدَّم أَوْلَاهما وأحقُّهما، كتقديم الفريضة إذا ضاق وقتُها على النافلة التي تُفْعَل قبلَها.
3. وقد يُقَدِّم الإنسان شيئًا ليس على سبيل التزاحم، ولكن لاعتبارات خاصَّة: كاعتبارِ جنس العمل، فجنس الصلاة أفضلُ مِن جنس القراءة أو الذكر؛ لأن الصلاةَ تنطوي على الذكر وزيادة، فذِكْرُ الله تعالى في أثناء الصلاة أفضل مِن الذكر خارج الصلاة، فتكون الصلاة بهذا الاعتبار أفضل وأَوْلى.
4. وقد يكون تقديم العمل باعتبار الوقت: فبعضُ الأعمال مؤقتة بزمانٌ خاصٌّ تكون مطلوبةً فيه، أو على النقيض: يكون لها زمانٌ خاصٌّ ينبغي ألا تُوقَع فيه.
ولعلَّ مِن أوضح الأمثلة: وقت النهي عن الصلاة: «لا صلاةَ بعدَ الصبحِ حتى تطلُعَ الشمسُ، ولا بعدَ العصرِ حتى تغرُبَ». فهذا الوقت يكون ذكرُ الله تعالى أو الاشتغال بأمرٍ مِن الأمور الأخرى، أولى وأفضلَ مِن الصلاة فيه، بل تكون الصلاة فيه إمَّا مُحَرَّمة أو مكروهة على حسب الحال.
5. وقد يكون تقديمُ العمل باعتبار حال الفاعل: فيكون مُتَلَبِّسًا بحال يُطْلَبُ منه عملٌ، ولا يُطْلَبُ منه عملٌ آخرُ.
يقول ﷺ: «نُهِيتُ أن أقرأَ القرآنَ راكعًا أو ساجدًا»، فقراءة القرآن في السجود أو الركوع منهيٌّ عنها.
أي: فذِكْرُ الله بالتسبيح، والتهليل، والدعاء أفضل مِن قراءة القرآن بالنسبة لحال الراكع والساجد، مع أنَّ قراءةَ القرآنِ في غير هذا الحال هي خيرٌ وأفضلُ.
6. وقد يكون التقديم باعتبار المكان: كما إذا كان الإنسان قريبًا مِن البيت الحرام، فإنَّ الطوافَ للقادم إلى مكةَ يكون أفضلَ مِن الصلاة.
7. وقد يكون التقديم باعتبار الاستطاعة والقدرة: كمَن يقدر على شيء مِن الأعمال الصالحة التي يحتاج الناس إليها، ولا يقدِر عليه غيرُه، فيكون هذا العملُ أَوْلى، وأوجبَ وألزمَ له؛ لقِلَّة مَن يستطيعون القيامَ به، مثل العبادات الماليَّة للأغنياء، وقصة: «ذهبَ أصحابُ الدثورِ بالأجورِ» معروفةٌ، فإنَّهم استطاعوا أن يحصلوا على الأمرين معًا، فنافسوا أهلَ العبادات والطاعات والقربات والأذكار، وزادوا عليهم أنَّهم يتصدقون بفضول أموالِهم، فقال النبيُّ ﷺ: «ذلك فضلُ اللهِ يؤتيه مَن يشاء».
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 56-61