الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

فقه الأولويات في قضايا الأمة

اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: السابعة عشر

ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م

 

إن تحديد الأولويَّاتِ العامَّة للأُمَّة، مِن مهمَّة أهل العلم والبصيرة، الذين يستطيعون أن يُدْرِكوا احتياجاتِ المجتمع؛ لأنهم يُطِلُّون عليه، وينظرون إلى مُجْمَل احتياجاتِه.

وهم أيضًا يعرفون الكفاءاتِ والقدراتِ والإمكانات الموجودة في هذا المجتمع، إضافةً إلى أنَّهم يعرفون الفرص الموجودة فيه.

إنَّ فقه الأولويَّات إذا نظرْنا إليه على مستوى الأُمَّة، وتحديد أولويَّاتها بكلِّ دولها وشعوبها، أو نظرنا إليه على مستوى دولة مِن الدول؛ سيكون عِلمًا شديدَ الخطورة؛ لأنَّه يدخُل في باب السياسة الشرعيَّة، التي يكون الإقدام فيها أو الإحجام، والحرب أو السِّلم، والأخذ أو العطاء أو المنع.. قائمًا عليه، فله ما بعدَه.

فربما تكون فرصةٌ نادرةٌ وسانحةٌ، والتأخير والتفريط يضيع هذه الفرصة على الأُمَّة، فيعضُّ الناسُ أصابعَ الندمِ.

وربما تكون هذه الفرصة الموهومة، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا؛ فيكون لإقدام الناس فيها التهلُكة، يقول الإمام ابن تيمية: «إنَّ معرفةَ المعروفِ والمنكرِ أَمْرٌ مُتَيَسَّرٌ لكثيرٍ مِن الناسِ، أنْ يعرفوا أنَّ هذا معروفٌ، وأنَّ هذا منكرٌ، وأمَّا معرفةُ أعرفِ المعروفَين وأنكرِ المُنْكَرَين، فهذا هو الأمرُ الذي لا يعرفُه إلا خاصَّةُ العلماءِ بهذا الدين».

فالإمام ابن تيمة يشير إلى أن معرفة «فقه الأولويَّات» في القضايا الكبرى العامة المتعلِّقة بالأُمَّة ومواقفها، وحياتها، وقضاياها السياسيَّة أو الاقتصاديَّة العامَّة إقدامًا أو إحجامًا، لا ينبغي أن تكون لآحاد الناس.

وفي ظلِّ الانفتاح الإعلامي الكبير، تُتَناوَل من خلال الحوارات في الإنترنت، أو من خلال القنوات الفضائيَّة، كثيرٌ مِن القضايا المتعلِّقة بالأُمَّة.

وهذا الكلام لا يقصد به الحَجْر على الناس أن يتحدَّثوا، لكن لا ينبغي أن نعتبر أنَّ هذا الحديث يعني الحقيقة والتطبيق والتنفيذ، ولكنَّه عرض الرأي الذي يقرُب ويبعُد، ويخطئ ويصيب، وما زال الناس في مثل هذا، والأولى أن تتربَّى الأُمَّة على منهج ناضج بعيد عن العنف والتشنُّج، وعن الاحتقان في مثل هذه القضايا.

وفي قصة أسرى بدر، لـمَّا اختلف الناسُ فيهم، وطلَب النبيُّ ﷺ مشورة أصحابه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: «يا رسولَ الله، بنو العمِّ والعشيرة، وأرى أن تستأني بهم لعلَّ اللهَ أن يهديَهم إلى الإسلام»!

فلاحظ أبو بكر رضي الله عنه قضيَّةَ القرابة، وأنهم أبناء العمِّ، وأنَّ هذا ربما يكون مَدْعَاة للرحمة بهم، والشفقة عليهم، ومصابرتهم، وعدم معاجلتهم بالقتل، بل تؤخذ الفدية والجزاء منهم.

ولما سأل النبيُّ ﷺ عمرَ رضي الله عنه قال: «والله يا رسول الله، ما أرى الذي رآه أبو بكر، وإنَّما أرى أنْ تُمَكِّنَني مِن فلان، وتُمَكِّن عليًّا وحمزةَ وفلانًا - وذكر أُناسًا- فيضربوا أعناقَهم».

فعمر رضي الله عنه لحَظ موضوع القرابة، ورأى أنه حقيق بمزيد مِن العقاب؛ نكاية بأولئك المشركين، فكلُّ قريب يتولَّى قتل قريبَه؛ حتى يعلمَ اللهُ أنَّه ليس في قلوبنا مودَّة ولا هوادة للذين كفروا!

فالذي رآه أبو بكر رضي الله عنه مَدْعاةً للتخفيف، رآه عمرُ رضي الله عنه مدعاةً للتشديد، فأخذ النبيُّ ﷺ برأي أبي بكر رضي الله عنه، وأطلق الأسرى بفداء، وانتهت القضيَّة عند هذا الحدِّ.

ولم يذكر لنا التاريخ أنه بعد هذه القضية تفرَّق الصحابة إلى استقطابات معيَّنة، ومجالس وأحاديث، يؤيِّد فيها هذا رأيَ أبي بكر رضي الله عنه، وهذا يؤيِّد رأيَ عمرَ رضي الله عنه؛ لأنَّ هذا التعليل لم يكن إلا تبريرًا لاجتهاد.

فانتهى الأمر عند حدِّ أنَّ كلَّ إنسان عبَّر عن رأيه بأرقى ما يمكن مِن الأساليب، وانتهت القضية.

والشيء العجيب أن النبيَّ ﷺ أخذ برأي أبي بكر رضي الله عنه، والمشهور عند الناس أن رأي عمر رضي الله عنه كان أصوبَ، وأن النبيَّ ﷺ كان يقول: «كاد يصيبُنا في خلافِكَ شَرٌّ».

وأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ‌أَنْ ‌يَكُونَ ‌لَهُ ‌أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾.

والذي يظهر أنه لا تعارض في هذا، فإنَّ الذي اختاره النبيُّ ﷺ هو الأصوب في الموقف نفسه؛ لأنَّ القضيَّة المعروضة كانت قضيَّة أسرى تَمَّ أَسْرُهم وهم يحاربون، ووُضِعَت فيهم الأغلال والقيود، فتحوَّلوا مِن مقاتلين إلى أسرى حرب، وانتقل حكمُهم إلى حكم جديد.

والحكم الجديد هنا هو ألا يُقْتَلوا، كما في قول الله عز وجل: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يعني في ساحة المعركة، ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ﴾، في القتل أثناء الحرب، ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾، هنا انتقلوا مِن مقاتلين إلى أسرى، ويأتي الحكم: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾.

ولم يذكر القتل، ولهذا قال بعض الفقهاء: إنَّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أن أسيرَ الحرب لا يُقْتَل، وإنما الذي عاتبهم الله تبارك وتعالى عليه هو أبعدُ مِن ذلك، وهو: لماذا يتمُّ أسرُهم؟ فلماذا لم تقتلوهم في ميدان المعركة، وهذا كان قتلًا مشروعًا مسوَّغًا؟ وهو أوَّلُ يوم أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ، فكانت النِّكايةُ لهؤلاء الكافرين المعاندين أحقَّ وأَوْلى، أَمَا وقد أُسِروا.. فكان الرأيُ ما رآه أبو بكر رضي الله عنه، واختاره النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

فهذا العلم إذا تعلَّق بقضايا الأُمَّة، فإنه لا ينبغي أن يستقلَّ به إلا أهل العلم والمعرفة، والخبرة، والبصيرة، والرأي، والتجربة، ولا بأس أن يطرح غيرهم آراءهم ولو كانوا مِن آحاد الناس، فقد يوجد الرأي عند مَن لا يُلْتَفت إليه، وقد يوجَد في الأنهار ما لا يوجَد في البحار، لكن أيضًا يبقى الأمرُ في نصابه.

أَمَّا في العصر الحاضر فقد تعقَّدت المشكلات، وأصبح الْحُكْمُ في كثير مِن القضايا لا يفتقر فقط إلى فقيه شرعيٍّ يعرِف الأحكامَ، والحلالَ والحرامَ؛ لأن القضيَّة الواحدة لها أبعاد سياسيَّة، واقتصاديَّة، واجتماعيَّة، وإعلاميَّة، إلى غير ذلك، ولذا لا ينبغي أن يضطلع بهذه الأولويَّات إلا مجموعاتٌ مثلُ المجالس والمجامع العلميَّة والفقهيَّة التي لها استقلال، وليست خاضعة لسلطة سياسية، وإنما لها استقلال شرعيٌّ فيما تَدِين اللهَ تبارك وتعالى به مِن الآراء، دون أيِّة ضغوط قد تجعلُها تمِيلُ إلى هذا الرأي أو ذاك.. هذا أولًا.

ثانيًا: لا بدَّ أن يكون ثَمَّت اعتبار للتخصُّصات، فلا يكفي نظر الفقيه، بل لا بدَّ من استماع عدد مِن التخصُّصات المتعلِّقة بهذه القضيَّة.

فإذا كانت القضيَّة اقتصاديَّة، فإن الفقيه لا يُدرِك مِن أبعادها ما يُدرِكه الاقتصاديُّ المتخصِّص، أو قد تكون القضيَّة طبيَّة، فيُسْمَع فيها رأيُ طبيبٍ، أو تكون إعلاميَّة، فيُؤْخَذ فيها رأيُ إعلاميٍّ.. إلى غير ذلك.

ثالثًا: لا بدَّ من «التحديث»، أي: تجديد ومراجعة هذه الأولويَّات بشكل مستمرٍّ؛ لأنَّ ما كان بالأمس أولويَّة ربما صار اليوم غيرَ أولوية.

ووتيرة التغيير في العالم أصبحت متسارعة جداً.

وهذا التسارع في وتيرة المتغيِّرات يُلْقِي بظلاله على المتغيِّرات والأولويَّات.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 89-93


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022