تأملات في الآية الكريمة
﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾
الحلقة: 34
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1445ه/ يوليو 2023م
قال شيخنا الدكتور علي القره داغي في تفسير الآية: إنّ جماهير المفسرين قد فسّروا هذه الآية بتعبير المنام وهذا حقّ لا شك فيه، ولكنّ الكلمتين: ﴿تأويل﴾، ﴿الأحاديث﴾، تحملان معنى آخر، وهو استعمال العقل والبصيرة والفطر السليمة لمعرفة نتائج الأفعال ومآلاتها وآثارها السلبية، أو الإيجابية، وهذا ما يسمى بالتحليل العقلي: الاقتصادي، أو السياسي.(1) ولا مانع من الجمع بين هذين المعنيين، إذ لا تعارض في الجمع بينهما، بل إنّ كمال النّعمة وتمامها بتحقيق النبوّة والحكمة، فالنبوة هبة من الله تعالى، وليست مكتسبة، أمّا الحكمة فهي مكتسبة من حيث المبدأ، وقد أجاز علماؤنا الجمع بين المعاني المشتركة، أو بين الحقيقة والمجاز ما دام ذلك ممكناً.(2)
فالتأويل لغة: من آل يؤول أوْلاً، ومآلاً. أي: رجع وصار، وأوَّل الشيءَ إليه: أرجعه. وأوّلَ الكلام: فسره وردّه إلى الغاية المرجوّة منه.
وأمّا الأحاديث فهي تشمل الحوادث والوقائع والأخبار والرؤى وبالتالي فإن تفسير: ﴿تأويل الأحاديث﴾، بالمعنيين صحيح، وحينئذ تكون دلالة الآية على التحليل العقلي الحكيم واضحة. يقول ابن عاشور: والتأويل إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله.(3)
ويصح أن تكون جمع حديث، بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث: إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها، بإدراك حقائقها على التمام، وهو المعنىّ بالحكمة وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته، ويصح أن تكون جمع حديث، بمعنى الخبر المتحدث به، فالتأويل: تعبير الرؤيا، وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين، واستدلوا بقوله في آخر القصّة: ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ [يوسف: 100].
وقال ابن عاشور: ولعلّ كلا المعنيين مراد، بناءً على صحّة استعمال المشترك في معنييه، وهو الأصح.(4)
وبناءً على ذلك، فإنّ تأويل الأحاديث يشمل ما يسمّى في عصرنا الحاضر بالتّحليل السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وبذلك يتحقق الاقتداء الكامل؛ لأنّ تأويل يوسف عليه السلام للأحاديث إذا حمل على النبوّة فلا قدوة فيها، لأنها غير مكتسبة، ولكن إذا شمل التحليل العقلي القائم على الحكمة فإن ذلك هو محلّ الاقتداء.(5)
وقال أبو السّعود رحمه الله: وكان يعقوب عليه السلام أشار بقوله: ﴿ويعلمك من تأويل الأحاديث﴾، إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبَيْ السجنِ ورؤيا الملِك وكون ذلك ذريعةً إلى ما يبلّغه الله تعالى إياه من الرياسة العظمى الّتي عبر عنها بإتمام النعمة وإنّما عرَف يعقوبُ عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي أو أراد كونَ هذه الخَصلةِ سبباً لظهور أمرِه عليه السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفتُه عليه السلام لذلك بطريق الفِراسةِ والاستدلال من الشواهد والدلائل والأَمارات والمخايل بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالِها وتمييز ما هو آفاقيٌّ منها مما هو أنفُسيٌّ كيف لا وهي تدل على كمال تمكّن نفسِه عليه السلام في عالم المثال وقوةِ تصرفاتِها فيه فيكون أقبلَ لفيضان المعارفِ المتعلّقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعةِ بحسبها في عالم الشهادةِ.(6)
وقال الشيخ محمّد متولي الشعراوي: ومعنى تأويل الشيء أي: معرفة ما يؤول إليه الشيء، ونعلم أن الرُّؤى تأتي كطلاسم، ولها شَفرة رمزية لا يقوم بِحلِّها إلّا مَنْ وهبه الله قدرة على ذلك؛ فهي ليست عِلْماً له قواعد وأصول؛ لأنها إلهامات من الله سبحانه وتعالى وبعد ذلك تصير يا يوسف على خزائن الأرض؛ حين يُوجد الجَدْبُ، ويعُمُّ المنطقة كلّها، وتصبح عزيز مصر.(7)
مراجع الحلقة الرابعة والثلاثون:
يوسف عليه السلام، علي القره داغي، مرجع سابق، ص 32.
2 المصدر السابق نفسه، مرجع سابق، ص 32.
3 المصدر السابق نفسه، مرجع سابق، ص 34.
4 التحرير والتنوير، مرجع سابق، (5/642).
5 يوسف عليه السلام، القره داغي، مرجع سابق، ص 33.
6 تفسير أبو السّعود، مرجع سابق، (4/254).
7 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6856).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي