تأملات في الآية الكريمة
﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
الحلقة: 38
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
بعدما بين يعقوب عليه السلام فضل الله عليه باصطفائه له وتعليمه تأويل الأحاديث، وإتمام نعمته عليه، قام بتعريف ابنه ببعض أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى فعندما تستقر هذه المعاني، في نفس الصغير، فإنه سيتذكر عند كلّ ابتلاء أن الله تعالى الّذي أحبه فاصطفاه هو الأعلم والأحكم، وأنّ ما سيصيبه من بلاء إنّما هو بعلمه وحكمته، فيطمئِن، ولا يلتجئ لغير العليم الحكيم.
وقد بدا جلياً عظيم أثر هذه التربية على يوسف عليه السلام؛ إذ قال لأبيه في نهاية القصّة: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100]، فرد الفضل إلى الله في تحقيق رؤياه وخروجه من السجن واجتماع شملهم، ثمّ جعل نزغ الشيطان هو السبب فيما حل بهم من بلاء، فكأنّه يقول: إنّ ما وقع فيه إخوتي بلاء، وما مسني من ضر بلاء، والسبب في البلاءين نزغ الشيطان، ثمّ كأن تعقيبه الّذي جاء به بصيغة التوكيد دالاً على عميق إحساسه بلطف الله تعالى وعلمه وحكمته، ولذا لم يحدّث أباه عما حل به من بلاء، لم يحدثه عن السجن، عن طول مكثه فيه، لكن حدثه عن إحسان الله بإخراجه من السجن، وأبوه يرى ما ترتب على هذا الخروج من عزّ وسلطان، ولم يحدثه عن غربته على طولها، ووحشتها لكن ذكرّه بإحسان الله لهم جميعاً بجمع شملهم وإبدالهم حياة أطيب من حياتهم الأولى قبل أن يأتوا من البدو، وكأن يوسف يقول لأبيه عليهما السلام: يا أبت ها قد تحققت رؤيتي وأنا مُستمسك بما علمتنيه، وأنا أقصها عليك. وإذا تأملت قول يعقوب عليه السلام: ﴿إن ربك عليم حكيم﴾، وقارنته بقول يوسف عليه السلام: ﴿إنّه هو العليم الحكيم﴾؛ بدا لك عظيم أثر صفات ذي الجلال والإكرام في نفس يوسف عليه السلام ولا سيما تلك الّتي غرسها الأب في نفس ابنه عليهما السلام. فانظر كيف عملت فيه عملها فتعامل مع الحوادث العظام بمقتضى علمه بها.(1)
قال ابن عاشور - رحمه الله -: وجملة إنّ ربك عليم حكيم تذييل بتمجيد هذه النعم، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته، فعلمه هو علمه بالنّفوس الصالحة لهذه الفضائل، لأنّه خلقها لقبول ذلك فعلمه بها سابق، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة.
وتصدير الجملة بــ (إن) للاهتمام، لا للتأكيد إذ لا يشك يوسف عليه السلام في علم الله وحكمته. والاهتمام ذريعة إلى إفادة التعليل. والتفريع في ذلك تعريض بالثناء على يوسف عليه السلام وتأهله لمثل تلك الفضائل.(2) إن التربية في الصغر لها فوائدها في الكبر.(3)
قال الدكتور أحمد نوفل: وتأمل كيف لطفُ الله: أنّ هذا الفتى ما غادر حجر النبيّ الكريم يعقوب إلى بلاد الشرك إلّا بعد أن تشرّب عقيدة التوحيد، وهذا بحدّ ذاته أعظم اللطف إذ لو كان القاؤه في الجبّ في سن مبكرة وهجرته إلى بيئة جاهليّة قبل سن التفتح والتمييز والإدراك لكان محتاجاً إلى المربي. وأين يجده؟.(4) الله أعلمُ بمَنْ يستحق حمْل الرسالة، وهو الحكيم الّذي لا يترك شيئاً للعبث؛ فهو المُقدِّر لكل أمر بحيث يكون مُوافِقاً للصواب.(5) كما أن الآية الكريمة احتوت على ثلاثة من أسماء الله الحسنى: (الرب، العليم، الحكيم).
مراجع الحلقة الثامنة والثلاثون:
آيات للسائلين، د. ناصر العمر، ص 108.
2 التحرير والتنوير، (5/643).
3 إتحاف الإلف، (1/93).
4 سورة يوسف دراسة تحليلية، ص 94.
5 تفسير الشعراوي، (11/6857).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي