تأملات في الآية الكريمة
﴿وَرَاوَدَتْهُ الّتي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾
الحلقة: 67
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
﴿وَرَاوَدَتْهُ الّتي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾: إذ أعجبت سيدة البيت زوجة العزيز بجمال يوسف وشبابه ووسامته، وكمال رجولته، ففتنت به، وأحبته وعشقته، وشجّعها على ذلك كونه عليه السلام يعيش قريباً منها في قصرها، فهو في بيتها، يغدو ويروح، أمام ناظرَيها وهو في ريعان شبابه، وقد حباه الله تعالى نضرة وجمالاً وبهاء، لا نظير له في زمانه، حتّى وصفه نبينا ﷺ عندما رآه ليلة الإسراء والمعراج بقوله: " فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن". ولا شك أن دخول الرجل على المرأة واختلاطه بها من أكبر أسباب الافتتان الّتي تؤدي إلى الفواحش والزنى ولهذا حرّم الإسلام اختلاط الرجل بالمرأة وخلوته بها، قال رسول الله ﷺ: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلّا مع ذي محرم".(2)
وحذر النبيّ ﷺ من دخول الرجال على النّساء، فقال: "إياكم والدخول على النّساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت"،(3) والحمو: القريب من جهة الزوج. وأراد رسول الله ﷺ من قول هذا أن يبيّن أن شأن القريب إذا دخل على المرأة أخطر من غيره؛ لأنّ النّساء عادةً يتساهلن في الاحتجاب والتستّر عن الأقارب، ولأنّه يدخل دون أن يخشى إنكار النّاس عليه، وقد شرط الله تعالى في الخادم الّذي يدخل على النّساء، لخدمتهن، أن يكون طفلاً لا يعرف شيئاً عن أمور العلاقات الجنسيّة مع النّساء، أو كبيراً لا شهوة له في النّساء، فقال: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الّذين لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ [النور: 31].
وعندما تفتن امرأة برجل وتشتهيه تدنو منه بلطف، وهي تعرض عليه حسنها وجمالها، وتغريه بنفسها، ليكون هو المفتون بها والطالب لها، ولا بدّ أن تكون امرأة العزيز قد فعلت ذلك وحاولت أن تلفت نظر يوسف إلى جمالها ومواضع الفتنة في جسدها. والفرص المواتية لغرضها هذا كثيرة وكبيرة، فقد كانا يعيشان في بيت واحد، وتحت سقف واحد، وهي السيدة الآمرة في البيت، مما يدلّ على طول المحنة الّتي مرّ بها يوسف عليه السلام.(4)
ومدلول كلمة: ﴿وراودته﴾ يدلّ على طول المحنة وشدّتها، إذ معناها دارت عليه بالحيل، فهو كناية عن المخادعة الّتي هي لازم معنى: (راود يراود)، إذا جاء وذهب، فقد دارت عليه بكلّ حيلة ونصبت له أشراك الخداع، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار، والرفق والمهلة، وإعمال الحلية.(5)
ولا بد أنْ يكون عليه السلام قد عرف قصدها، وفهم مرادها، فالأنبياء عليهم السلام من أذكى النّاس، وأكثرهم فطنة ونباهة، فكان عليه السلام يسعى ما استطاع أن يغضّ بصره عنها، ويتجاهل نظراتها وحركاتها، ويسعى أيضاً أن يكون بعيداً عنها، ولكن مشكلته عليه السلام أنّه كان يعيش في قصرها، وتحت سلطانهاً وأمرها، وهو المعنى البارز في قوله: ﴿الّتي هو في بيتها﴾، فيوسف عليه السلام مضطر أنْ يكون في بتيها، وأن يكون أحياناً موجوداً في مخدعها، المخصص لها وحدها، والذي تنام فيه مع زوجها، وهذا يبيّن لنا مدى المعاناة النفسيّة الشّديدة الّتي كان عليه السلام يعاني منها والإحراج الشديد الّذي كان يشعر به وهو يواجه تبرّجها وتهتّكها. والأنبياء عليهم السلام أطهر النّاس نفوساً، وأتقاهم قلوباً، وأكثرهم حياءً. ومرّت الأيام ولعلّها شهور وأعوام على هذه المعركة الصامتة الرهيبة بين:
- الطهر والعفاف، والحياء المسلح بسلاح الإيمان بالله تعالى من جهة، وبين الشهوات المسعورة المسلّحة بسلاح الفتنة والإغراء، والتمكّن والسّلطان من جهة أخرى، وكلّما ازداد عليه السلام إعراضاً وإباءً، ازدادت إقبالاً عليه وشغفاً به، وازدادت تهتكاً وإغراءً.(6) واستمرت تراوده بخداع رهيب عسى أن توقعه في أسر عبودية الشهوة، ووحل ذلّ الهوى. ثمّ قال تعالى مصوّراً هدفها الأساسيّ من هذه المراودة:
- ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾، ليدلّ على أنّها لا تطمع في سموّ دينه وطهارة أخلاقه. هي لا ترغب في رقيّ تعامله، وجاذبية صدقه، بل تطمع في إشباع غريزتها؛ لذا كانت كلّ هذه المحاولات لتراوده عن نفسه، إنها لا تريد إلّا نفسه لتملأ بها نزواتها الحيوانيّة، فهي تعرّض لهذه الغاية وحدها، وترى الآية تصرح بذلك، ولكن في أدب سام كلّ السمو، منزّه غاية التنزيه، مرتفع أعلى الارتفاع، عال أجمل العلو.(7) وأخيراً فاض – بالمرأة – الكيل وانتقلت من التلميح إلى التصريح، وقذفت إلى ميدان المعركة كلّ ما تملك من أسباب الفتنة والإغراء، وأسباب التمكّن والسلطان، أمرته بالحضور إلى مخدعها، وضربت عليه الحصار، وطوّقته بكلّ ما عند المرأة الأنثى الغنيّة المترفة من أطواق الإغراء والفتنة، ومن وراء كلّ ذلك طوّقته أيضاً بطوق الحصار الماديّ عندما غلّقت الأبواب.(8)
- ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾: والأبواب هذه كما جرت العادة من القديم، إلى الآن، أن يكون لقصور الأمراء والكبراء عدّة أبواب ونوافذ من الجهات الأربع، أو أن يكون لكلّ قصر أبواب متتابعة بعضها، وراء بعض، خارجة وداخلة ووسطى وقد جرى أبو حيان في البحر على الاحتمال الأول؛ إذ قال: هي أبواب ليست على الترتيب، بل هي جهات مختلفة، وكلها منافذ البيت الّذي كانا فيه، وشأن بيوت الأمراء والكبراء أن يكون القصر الواحد له عدّة أبواب من عدة نواح للدخول والخروج، كما يكون فيها عدد من النوافذ لتبادل الهواء ودخول النور. (9)والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه. وقوله: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ هو تضعيف تكثير لإفادة شدّة الفعل وقوّته، أي أغلقت كلّ باب إغلاقاً محكماً والمعنى المفهوم من قوله: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ أي: أحكم إغلاق باب المخدع الّذي كانا فيه، وباب الهواء الّذي يكون، أمام الغرف في بيوت العظماء، وباب الدار الخارجي، وروي أنّ الأبواب كانت سبعة، ولا دليل على ذلك، فقد تكون سبعة أو أكثر، أو أقل، والمراد أنّها قد أَحكمت إغلاق كلّ الأبواب الّتي يحتمل أن يأتي منها أيُّ قادم، سواء من داخل القصر أو من خارجه.(10)
ومجيء الفعل: ﴿غلقت﴾ ماضياً يدلّ على تحقق وقوع إحكام الأبواب كلّها بشدة وإيثاق، وفي هذا دلالة على عنف المحنة والكربة الّتي وقعت بيوسف عليه السلام بعد إذ سدت الأبواب في وجهه إلّا باب الله الّذي كان منجاة له من هذا الجوّ الخانق.
وهكذا نجد كيف أنّ هذا اللفظ على بساطته وإيجازه قد عبر عن هذه المعاني الجسام الّتي أحاطت بيوسف عليه السلام من كلّ صوب، لتدلنا على مدى البلاء، الّذي وقع به النبيّ الكريم عليه السلام.(11)
مراجع الحلقة السابعة والستون:
1 رواه مسلم، رقم: 162.
2 رواه البخاري، رقم: 162.
3 التفسير الموضوعي، (4/152).
4 التفسير الموضوعي لسورة يوسف، (4/153).
5 نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، (10/56).
6 التفسير الموضوعي، (4/154).
7 يوسف في بيت العزيز، عبد السلام المجيدي، ص 50.
8 التفسير الموضوعي، (4/154).
9 مؤتمر تفسير سورة يوسف، (1/95).
10 يوسف وقصته العجيبة، ص 151.
11 دلالة الألفاظ الّتي انفردت بها سورة يوسف، ص 14.
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي