الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة

﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾

الحلقة: 68

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1445ه/ سبتمبر 2023م

 

- ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾: هذه أوّل كلمة قالتها ليوسف عليه السلام وهي كلمة جاءت على نمط تعددت فيه الأقوال والدلالات وكأنها هي تحكي هذا النمط الغريب الّذي كانت عليه امرأة العزيز في ذلك الموقف.

- ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ هما كلمتان فقط اختصرت بهما المراد، وأوضحت فيهما مقصودها بكلّ صراحة، فالموقف وملابساته ومشاهداته يغني عن الخطاب، فكأنه المقصود هو لفت النظر إلى أنّ الاعتماد لم يكن على الخطاب، بل على الملابسات المحيطة به.

﴿هيت﴾: اسم فعل بمعنى هلمّ، وأقبل وأسرع.(1) ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ هو صوت استدعاء لهذا الأمر الّذي يكون بين الرجل والمرأة وقد جاء القرآن الكريم على هذه الصورة الّتي لم تعرفها اللغة في لسانها قبل نزول القرآن؛ لأنّه يحدّث عن حال من شأنه أن يكون سراً بين الرجل والمرأة، ولغة مخصوصة لهما ولا يعرفها غيرهما، وذلك إعجاز من إعجاز القرآن. ودع عنك ما ذهب إليه الذاهبون من تأويلات وتخريجات لكلمة: (هيت) وخذها على أنّها حكاية صوت لا على أنها كلمة استدعاء وكفى.(2)

وإن هناك من يرى أن هذه الكلمة كانت صريحة واضحة، تحكي حاجة كبيرة وصلت إليها هذه المرأة، لا أنها لغة خاصة، فهي بمعنى: أقبل، وتعال، وأسرع، وهي لم تكن المحاولة الأولى بل سبقها المراودة وتغليق الأبواب. يقول مصطفى صادق الرافعي: وأعجب من هذا كلمة: (راودته) وهي بصيغتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة ‌جعلت ‌تعترض ‌يوسف بألوان من أنوثتها، لون بعد لون؛ ذاهبة إلى فن، راجعة من فن؛ لأنّ الكلمة مأخوذة من رَوَدَان الإبل في مشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها؛ ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها؛ كما يصور كبرياء الأنثى إذ تحتال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها.(3)

وبعد هاتين المحاولتين بلغ هذا الأمر مبلغه وهذا ما يصوره الرافعي بقوله: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾: ومعناها ‌في ‌هذا ‌الموقف أنّ اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها.(4) ويؤيد هذا الرأي الدكتور فضل حسن عباس _ رحمه الله _: وماذا بعد هاتين المحاولتين؟ لم يبق إلّا تلكم الصراحة المكشوفة الّتي تشبه الجنون إن لم تكنه، وهي قوله تعالى: ﴿هيت لك﴾ هلمّ فلم يكن هناك مجال بعد الآن وما تشكُّ أنها ما كانت تنتظر من يوسف عليه السلام إلّا أن يُقبِل نهِماً، كما يُقبل السبع الجائع على فريسته.(5)

وهذا لا شك راجع إلى نظرتها إلى مثل هذا العمل. وبيئة القصور والترف مختلفة عن غيرها، ويظهر أنها طلبت منه أمراً غير بدع في قصورهم؛ وهو أن تستمتع المرأة بعبدها كما يستمتع الرجل بأمته، ولذلك لم تتقدم إليه من قبل بترغيب، بل ابتدأته بالتمكين من نفسها.(6)

إنّ هذه الدّعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أوّل دعوة من المرأة إنّما تكون هي الدعوة الأخيرة.(7) وقولها: (لك): اللام لزيادة بيان المقصود بالخطاب، كما في قولهم: سقيا لك. وشكراً لك (8)، وعلى كلّ فزيادة اللام والكاف تدلّ على حرصها عليها، سواء بدعوتها له بالإقبال، أم بتهيئها له، فكأنها تقول: (لك) خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري.(9) وأصوات الكلمتين الموجزتين في ﴿هيت لك﴾ صوّرتا شدّة رغبتها وخضوعها أمام يوسف رغم مكانتها وجمالها وسيادتها.(10)

 

مراجع الحلقة الثامنة والستون:

1 جماليات النظم القرآني، ص 27.

2 تفسير القرآن بالقرآن، (6/1553).

3 وحي القلم، (1/86). جماليات النظم القرآني، ص 28.

4 وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي، (1/87).

5 قصص القرآن الكريم، ص 381.

6 التحرير والتنوير، (5/665).

7 في ظلال القرآن، (7/1980).

8 التحرير والتنوير، (5/665).

9 نظم الدرر، (10/60).

10 جماليات النظم القرآني، ص 31.

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022