(أبو مسلم الخرساني وإعلان الثورة العباسية)
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 257
بقلم: د. علي محمد الصلابي
1 ذو الحجة 1442 ه/ 11 يوليو 2021
اسمه عبد الرحمن بن مسلم ، ويقال: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني ، الأمير صاحب الدعوة وهازم جيوش الدولة الأموية ، والقائم بإنشاء الدولة العباسية ، كان من أكبر الملوك في الإسلام. كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب من رجل يذهب على حمار بإكافٍ من الشام حتى يدخل خراسان ، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام ويعود بكتائب أمثال الجبال ، ويقلب دولة ، ويُقيم دولة أخرى.
كان قصيراً ، أسمر جميلاً ، حلواً ، نقي البشرة ، أحور العين ، عريض الجبهة ، حسن اللحية ، طويل الشعر ، طويل الظهر ، خافض الصوت ، فصيحاً بالعربية والفارسية ، حلوَ المنطق ، وكان راوية للشعر ، عارفاً بالأمور ، لم يُر ضاحكاً ، ولا مازحاً إلا في وقته ، وكان لا يكاد يُقطب في شيء من أحواله ، تأتيه الفتوحات العظام ، فلا يظهر عليه أثر السرور ، وتنزل به الفادحة الشديدة ، فلا يرى مكتئباً ، وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب. قال عنه الذهبي: كان أبو مسلم سفاكاً للدماء ، يزيد على الحجاج في ذلك ، وهو أوَّل من سن للدولة لبس السواد.
أ ـ الوضع العام عند إعلان الثورة:
كانت الظروف مواتيه لإعلان الثورة المسلحة في خراسان:
* فقد قامت حركات تمرد في أنحاء خراسان ضد السلطة الأموية ، حيث قام بها زعماء القبائل مثل جديع بن علي الكرماني ، وهناك ثورة قد اشتعلت بالكوفة قام بها عبد الله بن معاوية من ولد جعفر بن أبي طالب ، وانضم معه الكثير من الغاضبين ، مما فتَّ من عضد الدولة وأربكها ، وقد دخل فيها بعض أفراد الأسرة العباسية ، ومن بينهم: أبو جعفر والسفاح ، وعمهم عبد الله بن علي الذين ربما قصدوا من ذلك إفشال هذه الثورة ، وقد حدث ذلك حيث كانت نهايته على أيدي رجال الدعوة العباسية في خراسان ، ولأن خراسان لا تحتمل أكثر من دعوة وهي الدعوة العباسية.
* وفي الشام حروب طاحنة بين الأمراء الأمويين على السلطة.
* اشتداد العصبية القبلية في خراسان والعراق والشام ، فقد كانت تتخبط بالانقسامات والفوضى، وحتى الأندلس وصلت العصبية فيها إلى حروب طاحنة بين المضرية واليمنية.
* خروج الضحاك بن قيس الشيباني في العراق والجزيرة.
* ثورة الخوارج في كل مكان في العراق ، أو الحجاز ، واليمن.
* عصيان كثير من المدن ، في سورية وفلسطين والأردن؛ حيث خرجت عن طاعة الخليفة.
على ضوء هذه الأحداث وغيرها جد إبراهيم الإمام بعد ذلك إلى نقل الدعوة العباسية السرية ، إلى طور العمل والنضال الحربي ، فعرض القيادة العامة للجيش على سليمان بن كثير رئيس دعاة خراسان ،فرفض ذلك ، ثم عرضها بعد ذلك على إبراهيم بن سلمة ،فرفض هو الاخر هذا الطلب ، وكانا بالحميمة موفدين من قبل الشيعة العباسية لطلب الموافقة من إبراهيم الإمام لإعلان الثورة المسلحة ، وأن الدعوة السرية لا تستحق أكثر من هذا.
ب ـ تعيين أبي مسلم الخراساني على القيادة العامة:
استقر رأي إبراهيم الإمام على تولية القيادة العامة لأبي مسلم الخراساني ، وكان ذلك عام 128 هـ ، ولم يتجاوز عمره ـ انذاك ـ تسع عشرة سنة، وقد كتب معه كتاباً إلى شيعته في الكوفة قائلاً: إن هذا أبو مسلم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان.
أخذ أبو مسلم هذا الكتاب ليعرضه على الدعاة ، وكان أول ما عرضه على أبي سلمة الخلال بالكوفة ، وهو بطريقه إلى خراسان ، ولكنه لم يجد منه قبولاً ، فقد استصغره وحقره ، وتوجه إلى خراسان بعد ذلك؛ حيث عرض هذا الكتاب على كبار الدعاة فيها ، فتخوفوا من عواقب ذلك وردوه ، لأنه غلام عديم التجربة ، فلا يمكن أن يكون لمثل هذه الأمور الخطرة ، فأرسل وأرسلوا إلى إبراهيم الإمام بالحميمة حول هذا الموضوع ، فأجابهم الإمام إلى وجوب الالتقاء به عند موسم الحج، خرج هؤلاء والتقوا بإبراهيم الإمام في مكة ، فأخبرهُ أبو مسلم أن هؤلاء رفضوا الطاعة ، والانقياد له. فقال لهم الإمام: لقد عرضت هذا الأمر على غير واحد ، لكنهم رفضوا ذلك ، فاستقر رأيي على أبي مسلم لتولي رئاسة الجيش ، فأمرهم بالسمع والطاعة له.
جـ وصية الإمام إبراهيم لأبي مسلم:
وكتب إبراهيم الإمام وصية لأبي مسلم؛ جاء فيها: يا عبد الرحمن ! إنك رجل منا أهل البيت ، فاحفظ وصيتي ، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم ، وحل بين أظهرهم ، فإن الله لا يسمي هذا الأمر إلا بهم ، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مصر فإنهم العدو القريب الدار ، فاقتل من شككت في أمره ، ومن كان في أمره شبهة ، ومن وقع في نفسك منه شيء ، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل ، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ، ولا تخالف هذا الشيخ ـ يعني سليمان بن كثير الخزاعي ـ ولا تعصه ، وإن أشكل عليك أمر فاكتفِ به مني.
إن هذه الوصية غير متفق عليها من المؤرخين ، لذلك لا يمكن قبولها دون تمحيص ، فالنقد الخارجي للنص يظهر بأنه مذكور دون سلسلة رواة الطبري ، ولا ذكر للنص في مصادر مهمة أخرى مثل: أنساب البلاذري ، وأخبار الدولة العباسية ، وليس هناك أهمية كبرى لذكرها في كتب تاريخية متأخرة؛ لأن هؤلاء المؤرخين المتأخرين أمثال ابن خلدون وابن كثير وابن الأثير نقلوها ممن ذكرها قبلهم ، والمهم هنا أن نذكر بأن رواية الدينوري، وكتاب العيون والحدائق لا تذكر النص الذي يأمر فيه إبراهيم أبا مسلم بقتل العرب دون تمييز ، ولكن الوارد أن الأمر كان بقتل العرب الذين يرفضون الدخول في الدعوة العباسية ، أو المشكوك في ولائهم لها: واقتل من شككت في أمره. أو كما يقول العوفي: لقتل كل المدّعين أو المطالبين بالإمامة، ويؤيد ذلك ما يذكره صاحب أخبار العباس على لسان أبي مسلم: أمرني الإمام أن أترك في أهل اليمن وأتألف ربيعة ولا أدع نصيبي من صالحي مضر ، وأحذر أكثرهم من أتباع بني أمية وأجمع إليّ العجم.
ويمكن تلخيص النقد الداخلي للوصية بالنقاط التالية:
* الرواية مجزأة في الطبري إلى قسمين تذكر بينهما حوادث ذات علاقة بتطور الدعوة ، ولا علاقة لها بالوصية.
* تأتي الوصية تحت عنوان سبب قتل مروان بن محمد لإبراهيم الإمام ، مما يدل على أنها أو بعضها على الأقل دعاية ضد العباسيين وضعت من جانب أعدائهم.
* يظهر نص الرواية تناقضات كثيرة؛ فكيف يصح أن يأمر إبراهيم الإمام بقتل كل العرب وهو يدرك أهميتهم ، ويوصيه في بداية الرواية بتعهد اليمانيين وإلى درجة ما الربعيين.
* وأخيراً لا اخراً فإن سياسة أبي مسلم وسليمان الخزاعي في خراسان لم تسر أبداً حسب الوصية المزعومة، فإن الدعاة العباسيين تقربوا لليمانية والربعية، حتى إن أبا مسلم قبل الكثير من المضريين في صفوف الدعوة.
د ـ موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم:
وأما موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم فلم يكن ودياً أول الأمر؛ حيث طرده ولم يقبله بين صفوف الدعاة قائلاً: صُلينا بمكروه هذا الأمر ، واستشعرنا الخوف واكتحلنا السهر حتى قطعت فيه الأيدي والأرجل ، وبريت فيه الألسن ، جزاً بالسعار ، وسملت الأعين ، وابتلينا بأنواع العذاب ، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نالنا ، فلما تنسمنا روح الحياة ، وانفسحت وأينعت ثمار غراسنا ، طرأ علينا هذا المجهول الذي لا ندري أية بيضة تقلعت عن رأسه ، ولا من أي عش درج ! والله لقد عرفت الدعوة من قبل أن يخلق هذا في بطن أمه.
ولكن نفور بعض الدعاة أمثال أبي منصور طلحة بن رزيق وأبي داود خالد بن إبراهيم وغيرهما من كبرياء سليمان هو الذي دعاهم إلى قبول الشخص الغريب أبي مسلم ، فاضطر سليمان إلى الاعتراف بأبي مسلم خوفاً من تشقق الثورة وتصدعها.
ولعل رفض سليمان الخزاعي لأبي مسلم الخراساني يعود أيضاً إلى حداثة سنه وقلة تجربته التي قد تعرّض الدعوة للخطر ، هذا بالإضافة إلى أن سليمان طلب من إبراهيم الإمام ممثلاً له من أهل البيت أي: من الهاشميين وخاصة العباسيين ، ولم يكن يتخيل أنه سيرسل مولى له يمثله في خراسان.
وكان موقف أبي مسلم مرناً ويدل على ذكاء؛ حيث تقرب من سليمان وأعلمه بأن الإمام أوصاه بألا يعصي له ـ أي لسليمان ـ أمراً ، ويقدمه في جميع ما يدبرون ، وترجّاه كذلك ألاّ يشك فيه: أحسن بي الظن فإني أطوع لك من يمينك. ولم يكن شيعة العباسيين في قرى خراسان ومدنها يطيعون إلا سليمان الخزاعي ، صاحبهم والمنظور إليه منهم ، ولذلك كتب إليهم سليمان يخبرهم بأمر إبراهيم وإرساله أبي مسلم إلى خراسان.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com