من الأسباب المادية النصر والتمكين: التخطيط والإدارة ..
من كتاب (فقه النصر والتمكين)
الحلقة: التاسعة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
إن التخطيط السليم والإدارة الناجحة في العمل الإسلامي من الأسباب الأكيدة في التمكين لدين الله تعالى، ولقد عرف بعض الباحثين التخطيط بأنه «جسر الحاضر والمستقبل» (1).
إن التخطيط في المفهوم القرآني هو الاستعداد في الحاضر لما يواجه الإنسان في عمله أو حياته في المستقبل، وعلى هذا فإن الإداري المسلم يكون قد عرف التخطيط لأن الله تبارك وتعالى قد وجه إلى ذلك في آيات كثيرة.
قال تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" [القصص: 77].
إنه توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الآخرة وقال تعالى: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ.." [الأنفال: 60].
يقول الدكتور عبد الرحمن الضحيان: (هذه الآية دعوة للإدارة الإسلامية بالعمل والتخطيط والاستعداد بقوة لمواجهة أمر مستقبلي قد يحدث لدار الإسلام وأمته، والقوة هنا تفهم بمفهوم العصر، فقد تفهم بالقوة البدنية، وذلك ببناء الرجال الأشداء، الأقوياء في إيمانهم وأبدانهم وقوة السلاح بكل أنواعه، وحسب ما تخرجه المصانع من أنواع الأسلحة حتى القوة والطاقة الذرية وذلك ببناء المصانع النووية الإسلامية وحمايتها من ضرب الأعداء لها، وذلك كله لإرهاب عدو الله وأعداء الإنسانية, وحماية دار الإسلام من الأعداء، كما في آية " وَأَعِدُّوا لَهُمْ", مفهوم التخطيط الطويل الأجل الذي يجب أن تأخذ به الدولة الإسلامية وإدارتها الحكيمة حتى تحمي شوكة وقوة الإسلام) (2).
إن الأمثلة في القرآن الكريم على أهمية التخطيط كثيرة فمنها:
أ- يوسف عليه السلام:
ضرب القرآن الكريم مثلا للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية فأمكن بذلك تلافي مجاعة كانت تهدد الناس جميعا بالهلاك - بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه السلام وهو أمين على الخزائن - وذلك حين فسر الرؤيا التي جاءت على لسان ملك مصر في قوله تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ" [يوسف 43] وتولى يوسف عليه السلام تفسير الرؤيا فقال: " تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ" [يوسف: 47].
إن يوسف عليه السلام فسر الرؤيا وزاد عليها أن قدم خطة عملية تستغرق القطر كله والشعب المصري كله، أي أن خطته اعتمدت على التشغيل الكامل للأمة والبرمجة الكاملة للوقت، ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في الأمة، وهذا الذي أراده يوسف عليه السلام وعبر عنه بقوله " تَزْرَعُونَ" إن الذي يخطط له يوسف عليه السلام هو مضاعفة الإنتاج وتقليل الاستهلاك، لأن الأزمات والظروف الاستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي، ولأن سلوك الناس في الأزمات غير سلوكهم في الظروف العادية، استرخاء وبطالة، فإن هذه الأمة تكون في حالة خلل خطير يحتاج إلى علاج ومعالج خبير (3).
إن يوسف عليه السلام قسم خطته إلى ثلاث مراحل:
1- تزرعون سبع سنين دأبا.
2- ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد.
3- ثم يأتي عام يغاث فيه الناس.
وتظهر ملامح هذه الخطة في الآتي:
1- الطابع الغالب على المرحلة الأولى هو الإنتاج والادخار مع استهلاك محدود، فيوسف عليه السلام حدد خطط الإنتاج بالزراعة وحدد استمرار الإنتاج الزراعي سبع سنين العمل فيها دائب لا ينقطع، ومع هذا الجهد الكبير في الإنتاج المستمر كان هناك تحديد واضح للاستهلاك يبدو في قوله: " إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ" وأمر يوسف بحفظ السنابل المخزونة من الغلال كاملة كما هي " فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ".
2- فإذا ما انتهت سنوات الإنتاج السبع، بما فيها من جهد متصل دائب، واستهلاك محدود كان على الخطة أن تقابل تحديًا ضخمًا هو توفير الأقوات سبع سنين عجاف، وبعبارة أخرى: بعد الإنتاج والجهد الدائب في المرحلة الأولى سيأتي تحمل أيضا في المرحلة الثانية وهو تحمل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إلى كل فم.
3- ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق، ينبغي ألا تأتي هذه السنوات العجاف على كل المدخرات، وإنما كان يوسف عليه السلام واضحا في قوله " إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ" فكان هذا الجزء المدخر هو «الخميرة» التي تستطيع بها الأمة أن تقابل متطلبات البذر الجديد بعد السنوات العجاف، أي إعادة استثمار المدخرات.
كان على يوسف عليه السلام أن يوازن بين ثلاثة جوانب، الأول الإنتاج، والثاني الاستهلاك، والثالث الادخار، وأن يعيد استثمار المدخرات.
ومن طبيعة التطور أن تختلف «تفاصيل الصورة» ولكن أساسها سيظل قائما عميقا في ديننا وتراثنا.. (4).
وتظهر معالم التخطيط والإدارة في كلمات يوسف عليه السلام حيث إن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف الإدارة التي لا يمكن لها أن تكون فعالة بدونها، كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على دعامتين وخمسة عناصر، أما الدعامتان فهما: التنبؤ والأهداف، وأما العناصر فهي: السياسات والوسائل والأدوات والموارد المادية والبشرية والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنة التخطيطية التقديرية (5).
إن كتب علم الإدارة والتخطيط الحديث تقول: إنه لا إدارة فعالة إلا بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق, وهذا عين الذي زاوله يوسف عليه السلام، لقد جاء الحكم يوم جاء وبرنامجه الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإعلامي والزراعي كل ذلك في ذهنه قد أعد إعدادا كاملا دقيقا.
---------------------------------------
مراجع الحلقة التاسعة والخمسين:
(1) التخطيط والرقابة أساس نجاح الإدارة، د. عبد الفتاح دياب حسين، ص97.
(2) انظر: الإدارة في الإسلام نقلا عن التخطيط والرقابة أساس نجاح الإدارة ص97.
(3) انظر: سورة يوسف دراسة تحليلية، د. أحمد نوفل، ص409.
(4) مواقف إسلامية، د. عبد العزيز كامل، ص(83 – 86).
(5) انظر: سورة يوسف.. دراسة تحليلية ص(415 ، 416).
يمكنك تحميل كتاب فقه النصر والتمكين
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي