السبت

1446-10-28

|

2025-4-26

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة القاضي الفاضل ودوره في الدولة الأيوبية (2)
الحلقة: الثانية و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020

 

1 ـ إعادة التنظيم الإداري في مصر:
شرع القاضي الفاضل في تنفيذ مخطَّط قلب نظام الحكم الفاطمي بالتخلُّص من أصحاب الدَّواوين ، والكتَّاب الموالين للفاطميين ، وكان بحكم عمله في الدواوين على علمٍ برجالات الدولة ، وأصحاب دواوينها ، وكتَّابها ، وبولاءاتهم السياسية ، وميولهم المذهبية ، ولقد صاحب بعضاً منهم ، وعادى ، أو نافس بعضاً اخر ، وقد واتته الفرصة للتخلُّص ، ممَّن يستطيع التخلُّص منه ، ففعل ، وتخلَّص من عددٍ كبير من الكتَّاب الشيعة الإسماعيلية ، والمسيحيين ، واليهود ، وغيرهم خوفاً من أن يتامروا مع الفلول الفاطمية ، أو أن يتَّصلوا بالفرنج باسم الدواوين التي يعملون فيها.
ولقد أشار إلى خطر هؤلاء الكتَّاب في أكثر من رسالةٍ رسمية إلى الخليفة العباسي ، وإلى نور الدِّين. ففي إحدى رسائله عن صلاح الدين إلى الخليفة المستضيء (570هـ/1174 ـ 1175م) يصف أحوال مصر في ظل الفاطميين بقوله: ولهم «للفاطميين» حواشٍ لقصورهم من بين داعٍ تتلطف في الضلال مداخله ، وتصيب القلوب مخالته ، ومن بين كتَّاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل. ولقد ثبت صدق ظنِّه فيما بعد عندما راح هؤلاء يدبِّرون مؤامرةً لإحباط حكم صلاح الدين. وكما أنَّه سرَّح الكتَّاب ، والإداريين؛ الذين شكَّ في ولائهم؛ فإنَّه أبقى الإداريين الذين ضَمِن ولاءهم ، والذين كان بحاجةٍ إلى إدارتهم ، ومعلوماتهم ، ومساعدتهم في تطبيق مخطط الانقلاب ، وكان في مقدَّم هؤلاء الخطير بن مماتي رئيس ديوان الجيش ، وأحد أصدقاء القاضي الفاضل ، فقد خدم ابن مماتي في ديوان الجيش في عهد شاور ، ودخل المذهب السنِّي على يد أسد الدِّين شيركوه ، وظلَّ قريباً من القاضي الفاضل محبَّباً إليه حتى وفاته سنة 578هـ ، وعين بعده ابنه الأسعد بن مماتي في الدِّيوان ، ولقد أخلص الأسعد كوالده خزانة كتب الفاطميين. وإن تكن فكرة إنشاء المدارس السنية مستوردةً من الشام على غرار ما فعله نور الدين فيها من إنشاء مدراس شبيهة بمناهجها ، وموضوعات تدريسها في المدرسة النظامية ببغداد؛ فإن تمويل هذه المدارس ، واختيار المدرسين فيها كان ضمن مسؤوليات القاضي الفاضل.
فمن ضمن إصلاحاته الإدارية في فترة وزارة صلاح الدين فصلُ ديوان الأحباس الفاطمي؛ الذي كان يشرف على إدارة المؤسسات الدينية ، وتمويلها ، وتزويدها عن ديوان الأموال ، وجعله ديواناً مستقلاً تحت إدارة الوزير مباشرةً (أي: صلاح الدين) قبل القضاء على الفاطميين ، وتحت إدارته هو بعد القضاء عليهم ، ومن ثم فقد كان المسؤول الأكبر عن إدارة هذه المؤسَّسات المهمة ، وعن اختيار المدرِّسين فيها ، وقرَّاء القران ، والحديث ، والوعَّاظ ، والأئمَّة ، وكان هؤلاء جميعاً من وسائط التغيير. وكان من المعروف: أنَّ صلاح الدين كان يعتمد على خبرة القاضي الفاضل في اختيار هؤلاء؛ وهو في مصر ، وظلَّ على ذلك عندما انتقل إلى الشام؛ إذ كان يستشيره في الناحيتين التربوية ، والدينية ، وبعد أن هيَّأ صلاح الدين المصريين للانقلاب ، وقلَّم أظفار المؤسَّسة الفاطمية ـ كما ذكرنا ـ بدأ بالإعداد للقضاء نهائياً على شعائر الخلافة الفاطمية ـ ففي سنة 565هـ/1169م أبطل الأذان «بحيَّ على خير العمل ، محمد ، وعليٌّ خير البشر» ويعلِّق المقريزي بأنَّ هذه أوَّل وصمةٍ دخلت على الدَّولة.
* ثم أمر بعد ذلك في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565هـ/1169 ـ 1170م ، بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون: أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثمَّ علي.
*وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشِّيعة ، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلح العاضد لدينك.
* وولَّى القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكَّاري ، وهو كرديٌّ من أقرب المقرَّبين إلى صلاح الدين ، وقد فعل هذا كبدايةٍ لتحويل الولاء في القاهرة؛ التي كان أغلب أهلها من الإسماعيلية.
* كما عزل قضاة مصر من الشِّيعة ، واستولى بعدها على ممتلكات العاضد ، وعلى القصور ، وسلَّمها إلى الطواشي بهاء الدِّين قراقوش الأسدي ، فتحكَّم في مصر ، وصار يراقب كلَّ صغيرةٍ ، وكبيرةٍ فيه ، حتى أصبح الخليفة العاضد كالمعتقل في قصره.
*وفي بداية سنة 567هـ ، 1171 ـ 1172م قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين ، وكان قطعها بالتدريج أيضاً ، ففي الجمعة الأولى في محرم 567هـ/1171 ـ 1172م حذف اسم العاضد من الخطبة ، وفي الخطبة الثانية خُطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله ، وقطعت الخطبة الفاطمية.
وقد توفي العاضد في العاشر من محرم 567هـ/1171 ـ 1172م. وقد اختلفت هذه العاشوراء عمَّا تعود المصريون عليه من إشراف الدَّولة الفاطمية على البدع في يوم عاشوراء من خطبٍ مدميةٍ للقلوب ، وينعتون إلى مراثٍ مؤثرةٍ في ال عليِّ ـ رضي الله عنه ـ تثير في نفوسهم الكثير من الأحقاد بواسطة القصص الموضوعة ، والأكاذيب المفضوحة ، ويسبُّون الخلفاء من الراشدين ، وأمويِّين ، ثم ينصرفون إلى بيوتهم؛ ليأكلوا القمح المسلوق، والعدس ، وغيرها من المأكولات التي توارثتها أجيال بعدهم ، وعرفت بعاشوراء حتى وقتنا الحاضر ، ثم يصبحون في اليوم التالي؛ ليبدؤوا عاماً جديداً من حياتهم ، وأنظارهم موجَّهةً إلى حكَّامهم. وكان الخليفة يحتجب في قصره يوم عاشوراء ، وعند الضحى يركب قاضي القضاة ، والشُّهود في لباس خاصٍّ ، ويذهبون إلى مشهد الحسين المزعوم ، فيجلسون ، ومعهم قرَّاء القصر ، والخطباء ، فيدخل الوزير إلى صدر المجلس؛ وعلى جانبيه القاضي ، والدَّاعي ، ويشرع القرَّاء في تلاوة القران نوبةً نوبةً ، والجميع خشوع ، وما أن ينتهوا من قراءتهم حتى يقوم الشُّعراء ـ وهم عادة من غير شعراء القصر ـ فينشدون أشعاراً أعدُّوها لهذه المناسبة المهمة ، وكانت أشعارهم رثاء أهل البيت ، فإن كان الوزير رافضياً؛ تغالوا ، وإن كان سنِّياً؛ اقتصدوا. ويظلُّون على هذه الحال مدَّة ثلاث ساعات.
وبعد الانتهاء من القراءة ، والإنشاد كانت تأتيهم رسل الخليفة تستدعيهم ، فيغادر أول من يغادر الوزير؛ وهو بمنديل صغير إلى بيته ، وأمَّا قاضي القضاة ، والدَّاعي ، ومن رافقهما؛ فيذهبون إلى باب الذَّهب من القصر؛ حيث يرون منظراً يختلف عمَّا تعوَّدوا عليه ، فالسجاجيد الثمينة قد طويت؛ لتحلَّ محلَّها حصر بسيطة ، وصاحب الباب جالسٌ ينتظرهم. فيجلسون ، والناس من وجهاء البلد ، والعلماء ، والفقهاء؛ والعسكر حولهم ، أو بجانبهم ، فيقرأ قرَّاء القران ثانيةً ، كما ينشد المنشدون ، فَيُبْكون الحاضرين ثانية ، ثم يفرش سماط الحزن ، وفيه نحو ألف زبدية من العدس ، والملوحات ، والمخلَّلات ، والأجبان ، والألبان ، وأعسال النَّحل ، والفطير ، والخبز المغيرَّ لونه بالقصد. ووقت الظهر يقف صاحب الباب ، وصاحب المائدة ، فيُدخلان الناس للأكل ، فيكون أول الداخلين القاضي ، والدَّاعي ، ويجلس بقربهما صاحب الباب نيابةً عن الوزير ، ثم يدخل من يريد أن يأكل من الناس ، وبعد الانتهاء من الأكل يغادر الجميع القاعدة ، ويطوف النائحون في القاهرة ، ويغلق التُّجَّار حوانيتهم حتى العصر ، ثم يفتحونها ، وتعود الحياة إلى طبيعتها بعد هذه البدع. ولكم اشتراك القاضي الفاضل في هذه الاحتفالات بحكم عمله ، وقربه من المؤسَّسة الفاطمية ، لكنَّ هذه العاشوراء اختلفت عمَّا تعوَّد المصريون عليه ، فليس هناك قاضي قضاة ، ولا داعي دعاة؛ لأنهما عُزلا ، وليس هناك منشدون ، ولا نائحون يطوفون في شوارع القاهرة؛ لأنَّ اليوم كان معدَّاً لنوع اخر من الاحتفال ، وهو الاحتفال بالقضاء على هذه الطقوس ، والمراسيم؛ التي مارسها المصريون أكثر من مئتي عام ، والقضاء على واضعي هذه الطقوس ، والمراسيم بشتى رموزها ، ومفاهيمها. ولم يذهب صلاح الدين إلى المشهد الحسيني ـ المزعوم ـ كعادة الوزير ، بل ذهب إلى جامع عمرو بن العاص للصَّلاة ، فصلَّى ، ومعه عددٌ من أهالي الشام ، ومصر ، وجلس بعد الصلاة جانباً ، وبقربه القاضي الفاضل يتباحثان فيما أنجزاه منذ الجمعة السابقة التي تمَّ فيها إلغاء الخلافة الفاطمية ، وأُثبتت فيها الدَّعوة للخليفة العباسي ، فدخل أحد الجنود مسرعاً ، وتوجَّه إليهما ، وقال لهم شيئاً ، وخرج ، فنظر كلٌّ من صلاح الدين ، والقاضي الفاضل أحدهما إلى الاخر ، فغمز القاضي الفاضل إليه ، وابتسما ابتسامة ارتياح ، وحبور.
ثم سرعان ما غيَّر صلاح الدين تعبير وجهه ، وقال: لو عرفنا: أنَّه ـ أي الخليفة العاضد ـ يموت في هذا اليوم ما غَصَصْناه برفع اسمه من الخطبة. فضحك القاضي الفاضل ، وردَّ عليه قائلاً: يا مولاي! لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة؛ لم يمت! فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية بين الوزير صلاح الدين ، وكاتبه ، ومستشاره؛ التي انطوت فيها اخر صفحة من صفحات تاريخ الدولة الفاطمية ، فقد توفي العاضد اخر الخلفاء في هذا اليوم يوم عاشوراء سنة 567هـ/1171م أي: يوم ذكر مقتل الحسين بن عليٍّ ، رضي الله عنهما.
2 ـ القاضي الفاضل والقضاء على الدولة الفاطمية:
لقد أشار المؤرخ المصري المقريزي إلى الدَّور الذي قام به القاضي الفاضل في الانقلاب على الفاطميين بقوله: واستعان صلاح الدين به (أي: بالقاضي الفاضل) على ما أراد من إزالة الدَّولة الفاطمية؛ حتى تّم مراده ، فجعله وزيره ، ومستشاره. وإن كلمة استعان تشير إلى دور القاضي الفاضل في تنفيذ مخطَّط صلاح الدين في القضاء على الدولة الفاطمية ، كما أن اختيار صلاح الدين القاضي الفاضل وزيراً له ما هو إلا تعبير عن تقدير صلاح الدين لدور القاضي الفاضل في هذا المخطَّط الخطير ، وفي تأسيس قواعد الدَّولة الأيوبية؛ التي سبقت هذا المخطط ، وهذا الاختيار يشير أيضاً إلى اعتراف واضح من صلاح الدين بدور القاضي الفاضل في إطاحة الفاطميين ، وبأهمية القاضي الفاضل لخطط صلاح الدين المستقبلية ، ولقد ظل صلاح الدين يجني ثمرة اختياره القاضي الفاضل وزيراً له حتى وفاته ، ولقد كانت أعمال القاضي الفاضل في الإدارة المصرية منذ عهد أسد الدين ، وأقواله في كتاباته في عهد صلاح الدين تشير إلى دوره الكبير في دعم الوجود السُّنِّي في مصر.
ولقد سعى من خلال مخطط سنِّيٍّ واسع للقضاء على عوامل الانقسام الديني في العالم الإسلامي ، وحماية مصر من الاجتياح الفرنجي ، واستعادة فلسطين ، وقد واتته الفرصة لتحقيق هذه الأهداف مع صلاح الدين ، وسارع إلى تحقيقها. فقد رأى في صلاح الدين مثالاً للقائد القادر على أن ينقذ مصر من الخطر الفرنجي من ناحية ، وأن يقدِّم لأمته الكثير ، ولذلك منح صلاح الدين مصادره الوافرة من معلومات ، وتجربة ، وإدارة ، وأدب ، وشعر ، وأسَّس بمساعدته ، والتعاون معه شيئاً من الاستقرار الداخلي لمصر بعد كلِّ ما دهاها ، ودهى شعبها من محنٍ ، ومصائب.
وأدرك صلاح الدين: أنَّ القاضي الفاضل إنسانٌ عظيم عقلاً ، وعلماً ، ومكانة ، وفي إمكانه أن يوصله إلى أهدافه في مصر من خلال مصادره الوافرة. وهكذا تضافر الرجلان على تحقيق غايةٍ كبرى أحسَّا بها ، فعمل كلٌّ في ميدانه على تحقيقها. لقد كان القاضي الفاضل سياسياً ، ورجلَ دولة عظيماً ، جمع بين واقعه السياسي ، ومرونته ، ودهائه ، وبين هدفٍ كبيرٍ نذر نفسه له ، وصبر مع الأيام لتحقيقه ، واستنشق رياح التاريخ حين هبَّت ، واعتقد: أنَّ طريق الإسلام هو طريق أهل السُّنة ، وكلُّ طريقٍ غيره لا يوصل إِلا إلى الخلاف ، وتبديد الإيمان ، والقوى. وما غابت أرض فلسطين عن باله ، وعندما لاحت فرصة استعادتها ، وأيقن بصدق صلاح الدين في الجهاد من أجلها؛ اشتدَّت عزيمته ، وشُدت رحاله ، ولئن أوصله اختياره إلى سدَّةٍ عاليةٍ ، فأصبح في دولة صلاح الدين وزير الدولة ، والرجل الثاني فيها ، فإنَّه حقق بذلك كل ما يطمح رجلُ السياسة إليه من نجاح أهدافه ، وقضيته بمساهمته في التخطيط ، والعمل ، كما حقَّق نجاحه هو ، وعلوَّ أمره ، وتلك مطابقةٌ تشهد له بالمواهب العريضة ، والدَّهاء الفائق.
كان القاضي الفاضل المتحدَّث الرسمي بلسان السُّلطان صلاح الدين في الدَّاخل ، والخارج ، وكان على حدِّ قول ابن كثير: أعزَّ عليه من أهله ، وولده. وكان السُّلطان يشيد بفضله ، فيقول: لا تطنُّوا أني ملكت البلاد بسيوفكم ، بل بقلم الفاضل. وقد بلغ القاضي الفاضل مكانةً سامية في الدَّولة ، فكان الساعد الأيمن لصلاح الدين؛ إذ جعله: وزيره ، ومشيره بحيث كان لا يُصدر أمراً إلا عن مشورته ، ولا ينفذ شيئاً إلا عن رأيه ، ولا يحكم في قضيةٍ إلا بتدبيره.
إنَّ هذا العالم الرَّباني يعلِّمنا دروساً مهمة ، منها: عدم الانعزال عن الشأن العام ، والعمل الاجتماعي ، والحكومي، والحرص على كسب الخيرات ، وأهمية التميُّز في أداء العمل ، والتمسُّك بمنهج أهل السنة ، والتعاون مع إخوانه في العقيدة الصحيحة ، وتوظيف القدرات ، والإمكانات لخدمة المشروع السُّنِّي؛ فقد قدَّم لصلاح الدين النماذج السنية القيادية ، والخطط العملية ، ولم يبخل عليه برأيٍ ، ولا مشورةٍ. ولا تجربةٍ ، كما أنَّ حياة هذا الرَّجل مدرسةٌ في فهم مقاصد الشريعة ، وفقه المصالح ، والمفاسد ، وبناء الدولة ، وزوالها ، كما نتعلَّم منه ـ وهو الرَّجل المفكر ، والمفتي ، الكبير في دولة صلاح الدين ـ أهمية معاملة عامَّة الشيعة بقوانين العدل ، ومحبة الخير لهم ، وعدم سفك دمائهم ، والحرص على تعليمهم ، وإنما يكون استخدام القوَّة ضدَّ المؤامرات ، والتكتُّلات العسكرية ، ومع من لا يجدي معهم إلا استخدام القوَّة.
3 ـ القاضي الفاضل والجهاد:
صحب القاضي الفاضل صلاح الدين في جميع غزواته ببلاد الشام ، ثم أقام بمصر؛ ليشرف على الإدارة المالية ، ويعمل على تجهيز الجيش ، والأسطول ، وبعدئذٍ عاد إلى بلاد الشام بجوار صلاح الدين ، وظلَّ بالقرب منه حتى مرضه الأخير ، ووفاته مع القاضي ابن شدَّاد سنة 589هـ/1193م. وهناك مواقف حاسمة للقاضي الفاضل تؤكِّد مكانته ، وعلوَّ منزلته في الدولة الصلاحية ، فعندما كان السُّلطان صلاح الدين مقيماً على مرج الصفر في بلاد الشام عام 571هـ/1176م طلب الصليبيون الهدنة منه ، فأجابهم إلى ذلك مضطراً «لأنَّ الشام كان مجدباً» ثم أرسل جيشه في صحبة القاضي الفاضل إلى الدِّيار المصرية؛ حتى يستريح أفراد الجيش بها من ناحيةٍ ، ولخوفه من حدوث أيِّ اضطرابات في مصر أثناء غيابه عنها من ناحيةٍ أخرى ، ولذلك كان إرساله للجيش بصحبة القاضي الفاضل غاية الحزم ، والتدبير ، ليحفظ ما استجدَّ من الممالك خوفاً عليه ممَّن هنالك.
وإلى جانب ذلك كان القاضي الفاضل دائماً يلازم السُّلطان صلاح الدين في جهاده ، ولعلَّ ما يؤكد ذلك تلك الرسالة التي بعث بها إلى السُّلطان صلاح الدين يعتذر فيها عن عدم مشاركته في الجهاد ضدَّ الصليبيين على حارم سنة 573هـ/1177م ، لرغبته في أداء فريضة الحج ، فيقول ابن واصل: وتخلَّف القاضي الفاضل بمصر بنية الحجِّ في السنة القابلة ، ووصل منه كتاب إلى السُّلطان يذكر فيه: وأمَّا تأسف المولى على أوقاتٍ تنقضي عاطلةً من الفريضة؛ التي خرج من بيته لأجلها ، وتجدُّد العوائق؛ التي لا يوصل إلى اخرها حبلها؛ فللمولى نية رشده ، أوليس الله بعالم بعبده ، وهو سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله ، لأنه غير مقدور له ، ولكن عن النية؛ لأنها محلُّ تكليف الطاعة ، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة، وإذا كان المولى اخذاً من أسباب الجهاد، وتنظيف الطرق إلى المراد؛ فهو في طاعة قد منَّ الله عليه بطول أمدها ، وهو منه على أملٍ في نجح موعدها ، والثواب على قدر مشقته ، وإنما عظم الحجُّ لأجل جهده ، وبعد شقته ، ولو أنَّ المولى فتح الفتوح العظام في أوَّل الأيام ، وفصل القضية بين أهل الشرك ، وأهل الإسلام؛ لكانت تكاليف الجهاد قد قضيت ، وصحائف البرِّ المكتسبة بالمرابطة ، والانتظار قد طويت.

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022