الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مكانة القاضي الفاضل ودوره في الدولة الأيوبية (3)
الحلقة: الثالثة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020

 

1 ـ القاضي الفاضل الأديب:
برز القاضي الفاضل في عصره كأديب ، ونُسبت إليه مدرسة نثرية عُرفت بمدرسة القاضي الفاضل في النثر ، خلَّدته بين الأدباء ، وكإداريٍّ قدير ، وضعته إدارته في صفِّ الوزراء النابغين ، وكإِنسانٍ كرّس حياته لخدمة الشعوب التي أحتكَّ بها ، وفي الجهاد لتحرير مناطق إسلامية اغتصبتها شعوبٌ غربيةٌ قسراً ، وقد أجاد القيام بأدواره العديدة كلَّ الإجادة ، حتى إنَّ المؤرخين اعتبروه نموذجاً للإنسان المثالي في عصره ، ويقف الكثيرون في حيرة أمام أسلوب القاضي الفاضل ـ وإن صعب على البعض فهمه ـ يدلُّ على ثقافةٍ واسعةٍ ، وإطِّلاع دقيق على الأدب ، والحديث ، والفقه ، وغيرها من العلوم ، وعلى فهمٍ عميق للقران ، فالقاضي الفاضل كان يملك أكبر مكتبة في عصره ، تغنَّى المؤرخون بها ، وأشادوا بمحتواها ، كما ذكروا: أنَّ ما فيها بلغ المئة ألف ، فكيف يوصف إنسان ، أو عصره بانحطاط التعبير؟ وهذا الإنسان لم يكن إدارياً ، أو سياسياً ، فحسب ، بل كان أيضاً أستاذاً كبيراً من أساتذة عصره ، أمضى فترة تقاعده في التدريس ، وتثقيف الأجيال المقبلة ، ويمثل أسلوب القاضي الفاضل طريقةً ثالثةً في التعبير ، اختصت اللغة العربية بها إلى جانب الطريقتين الشائعتين في الآداب الأخرى ، وهما: الشعر ، والنثر المرسل ، لكن التعبير الأدبي العربي يحتوي على ثلاثة نماذج: أولها ، وأقدمها ، النموذج الشعري الذي تصل منابعه إلى الشِّعر الجاهلي ، ويمتد تدفُّقه إلى عصرنا الحالي ، والأسلوب الثاني أسلوب النثر المرسل، وهو الذي كُتبت به كتب التاريخ، والفلسفة، والفقه، والأصول ، والتفسير ، والعلوم ، وغيرها ممّا أبدعه العقل العربي ، والإسلامي. وأما الأسلوب الثالث فهو أسلوب النثر الفني ، ونجد في هذا الباب أدب المقامات ، وأدب الرسائل؛ الذي يعود إلى بداية التغيير الأدبي النثري متمثِّلاً في عبد الحميد الكاتب ، وكان هذا الأسلوب في عصر القاضي الفاضل ، وأمثاله من أبناء عصره هو الأسلوب المقبول في التعبير ، لا من ناحية بلاغته فحسب ، بل من ناحية تأثيره أيضاً. فالرَّسائل التي كتبها القاضي الفاضل ، وأمثاله من أبناء عصره كانت بياناتٍ سياسيةً ، واجتماعيةً ، ومقاماتٍ تحمل مختلف المعاني. ومما ينفي عن هذه الرسائل أيَّة شبهةٍ بالنسبة إلى مستوى الأسلوب ، والتعبير اللغوي ما تحتويه في صلبها من إشارات إلى الأدب، والحِكم، والأمثال، والأحاديث الشريفة ، واقتباس من كتاب الله ، فضلاً عن الصُّور التي تستخدمها لتواكب الأحداث.
2 ـ دعوته إلى الوحدة بعد وفاة صلاح الدين:
ظلَّ القاضي الفاضل محافظاً على مكانته المعنوية في البلاد بعد وفاة صلاح الدين ، فاهتمَّ العزيز عثمان ملك مصر بأمره ، وأكرمه ، واتَّخذ منه ناصحاً ، ومشيراً؛ إلا أنَّ القاضي الفاضل لم يُظهر تهافتاً ، أو اندفاعاً على التدخُّل في أمور الدولة ، فقد اثر الانعزال عن العالم السياسي ، وتكريس الأعوام الباقية من حياته لمدرسته الفاضلية. ولا شكَّ في أنَّ اعتزاله السياسة في هذه الفترة يعود إلى أسبابٍ عدَّةٍ ، منها: أنَّه فقد بوفاة صلاح الدين الرَّجل الذي فيه وضع كلَّ اماله ، وتوصل في عهده إلى مركز عالٍ لم يكن غيره يحلم بالوصول إليه في عهده ، كما كرَّس قسماً كبيراً من حياته في نصحه ، وإرشاده ، ، وهبه كلَّ ما في وسعه من محبةٍ ، وإخلاص؛ حتَّى أصبح لا يطيق الابتعاد عنه في حياته ، فكيف بعد موته ، وافتقاده صلاح الدين ، ويأسه من الحياة بعد موته كل ذلك ظاهرٌ في عددٍ من رسائله التي أشار فيها إلى أمنيته بلقاء صلاح الدين في الاخرة: وما بايعنا الدنيا على أنَّا خالدون فيها مع الأحبَّة ، ولا أنَّ الموت غير زايرنا؛ وإن أطال الغيبة ، والأحبَّة الراحلون عنَّا إن اشتقنا إليهم؛ فإنَّ الأيام مراحلنا؛ التي تدنينا منهم ، والأنفاس خطواتنا؛ التي تخطو بنا نحوهم ، فنحن في كل يوم سايرون إليهم ، وفي كل يوم قادمون عليهم ، فكيف لا ينقص الحزن بمقدار ما ينقُص من المسافة.
ولم يترك مناسبةً تمرُّ من دون ذكر صلاح الدين ، فقد كان إذا رأى معارفه؛ تذكَّره ، وإذا رأى الناس من حوله ، وردت صورتُه لخاطره. ذكر لعماد الدين في إحدى رسائله قوله: وَلِسَلْوة الأيام موعد هو الحشر ، وأنَّ ليلة لقائه هي ليلة القدر ، ولقد حَيِيَ ، فطابت الحياة ، وتوفَّاه الله ، فطابت الوفاة ، وإن امرأً يحسن به الضدَّان ـ وَهُما ما هما ـ ومولىً يطيب به الطوران ـ والحياة بالطيب أولاهما ـ لمعزورةً فيه القلوب إذا خضعت تحت وطأة الخفقان، والجفون إذا أمررت عليها مؤرة الهملان. كما أنَّه لم يعد المحرِّك السياسي للدولة بعد وفاة صلاح الدين، فقد تقسَّمت الدولة ، وتقسَّمَ العمل الذي كان يقوم به زمن صلاح الدين بين أشخاص عديدين ، بينهم أشخاص لم يكن راضياً عن تصرُّفاتهم زمن تنفُّذه ، كصفي الدين بن شكر وزير الملك العادل ، وضياء الدين وزير الملك الأفضل؛ الذي حاول أن يبعده عن أصحاب أبيه ، ومستشاريه منذ البداية.
ولقد أدرك القاضي الفاضل نهاية مسيرته بوفاة صلاح الدين ، وعبَّر عن مشاعره ببعض رسائله الإخوانية ، يذكر في إحداها: وقد تبرَّمتُ بالحياة ، فبعد أن كنت ممَّن أخدمه بمكان العين؛ صرت بمكان القذاة ، والأعمار أكثرها الأكدار؛ إلا أنَّ أشدَّها مؤونةً ما كان في أواخر المدد؛ حيث يكون المرء في أواخر الجلد. ويمكن القول: أنه تبدَّد بوفاة صلاح الدين حلمٌ كبير كرَّس القاضي الفاضل له قسطاً كبيراً من حياته ، فقد تقسَّمت البلاد التي طالما سعى لتوحيدها ، وتقويتها بين أبناء صلاح الدين الذين راحوا يتنافسون في شأنها ، ويتناحرون مدفوعين بأنانيتهم ، مُغفلين أمر العدوِّ الرابض على حدودهم ، فراح يدعوهم إلى التحالف ، ويحاول التقريب بينهم ، ولم يترك مناسبةً تمرُّ دون أن يذكِّرهم بضرورة توحيد الصف ، فكتب للملك الظاهر بن صلاح الدين ضمن رسالة عزاءٍ بوالده يقول: وأمّا لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدتم إلا شخصه الكريم ، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلية أهونها موته ، وهو الهول العظيم.
وقد قام القاضي الفاضل بدورٍ في الصلح بين العزيز عثمان بن صلاح الدين ملك مصر ، والأفضل بن صلاح الدِّين ملك الشام ، وعمل على شَدِّ أزر العادل أبي بكرٍ أخي صلاح الدين أكبر أقارب صلاح الدين ، وأكثرهم خبرةً؛ لكي يقف وقفاتٍ صامدةً كأخيه ضد الخطر الصليبي ، فكتب له في إحدى رسائله سنة 593هـ/1196م: وما تجدَّد من وصول العدول اللَّعين إلى جانب بيروت ، وخطر البلاد ما أذهل كلَّ مرضعةٍ ، وأوقع في ضائقة تنفق الأفكار فيها من سعة ، وللإسلام اليوم قدمٌ وإن زلَّت زلَّ؛ وهمَّةٌ وإن ملَّت؛ فإن النَّصر منها ملَّ ، وتلك القدم قدم العادلية ، وتلك الهمَّة الهمَّة السابقة السيفية ، فالله الله ثبتوا ذلك الفؤاد ، ودقُّوا ذلك المهاد ، واسهروا في الله ، فليست بليلة رقاد ، ولا يُنظر في حديث زيدٍ ، ولا عمرٍو ، ولا أنَّ فلانا نفع ، وضر ، ولا أنَّ الجماعة مَنْ جاء ، ولا أن فيهم من مرَّ. انظروا إلى أنكم الإسلام كلُّه ، برز إلى الشرك كله ، وأنكم ظلُّ الله ، فإن صَمَّمتم تلك النسبة فإن الله لا ناسخ لظلّه ، واصبروا إنَّ الله مع الصابرين ، ولا تهنوا؛ وإن ذهب الناصرون؛ فإنَّ الله خير الناصرين ، فما هي إلا غمرةٌ ، وتنجلي ، وهَيْعةٌ ، وتنقضي ، وليلة ، وتصبح ، وتجارةٌ ، وتربح. لكنّه شاهد بعض المدن يسقط ثانية في يد الفرنج ، فراح يتحسرَّ على انفراط العِقْد؛ الذي جمعه مع صلاح الدين ، ويزداد بأساً ، وانعزالاً.
وكان للأمراض التي تراكمت على القاضي الفاضل أثرٌ في ابتعاده عن الجوِّ السياسي ، فقد كان ضعيف البنية ، كثير المرض ، وكان هذا يؤخِّره عن الاشتراك في بعض الغزوات عندما كان صلاح الدين حياً ، وفي رسائله كثيرٌ من الإشارة إلى مرضه ، وضعفه اللذين ازدادا بعد وفاة صلاح الدين ، وقد ذكر في إحداها إلى صديقه العماد الأصفهاني قوله: وسيدنا يعلم كيف حال الكبير إذا فقد الصَّغير ، والضَّعيف المتثاقل إذا نودي للنفير ، ما كأني عرفت الأيام إلا في هذه الأيام ، ولا كأنَّ الدنيا لبستها إلا على أن يخلعني الحِمَام ، فقد توقَّعت أمر الله أن يطرقني بياتاً؛ وأنا نائم ، أو ضحىً؛ وأنا هائم. كما كتب إليه في إحدى رسائله يصف حالته الجسمانية قائلاً: وأصدرت هذه الخدمة ورجلايَ قد عام النقرس إلى تقييدهما ، وتصفيرهما بالألطخة ، وتسويدهما ، جنبي طريحٌ ، وما فيَّ صحيح إلا سقمي ، فإنه صحيحٌ ، وإذا خلوت إلى شيطان المرض؛ أصيح. وكتب إليه رسالة أخرى قائلاً: وأما أحوالي في جسمي؛ فلا تسأل عن تداعي البنية ، المفاصل مذهبةٌ ، والأسنان مضمدةٌ ، والنقرس يغلي ، وزيادة كالنَّقص زيادة العصا في ظلِّي. ووصف أوجاعه في اخر حياته للعماد أيضاً بقوله: وأخلاق الغلمان؛ وما أدراك ما هيه؟! نار حامية. وقد صرت أرى الصبر على الضرورة أولى من الابتلاء بهم في الخدمة ، فأجوع ، ولا أقول: أطعموني ، وأظمأ ، ولا أقول: اسقوني، وألقيت بيدي، وقلت: مرُّوا، ومددت رجلي، وقلت: جرُّوا.
3 ـ وفاته:
توفي القاضي الفاضل بعد كلِّ هذه الالام الجسمية ، والمعنوية في السَّادس من ربيع الأول 596هـ/1199م. قال العماد الأصفهاني في حوادث هذه السنة ناعياً إيَّاه: تمَّت الرزيَّة الكبرى ، والبليّة العُظمى ، وفجيعة أهل الفضل بالدِّين ، والدنيا ، وذلك بانتقال القاضي من دار الفناء إلى دار البقاء في داره بالقاهرة. وذكر في وفاته: أنَّه عمل ليلة العشاء السابقة لوفاته في مدرسته ، وجلس مع الفقيه ابن سلامة مدرِّسها ، وتحّدث معه ما شاء ، وشوهد من كلِّ ليلة أبشَّ ، وأبسم ، وأهشَّ ، وقد طابت المحاضرة ، وطالت المسامرة ، وانفصل إلى منزله صحيح البدن ، فصيح اللسان ، وقال لغلامه: رتّب حوائج الحمَّام ، وعرِّفني حتى أقضي مُنى المنام ، فوافاه سحراً للإعلام ، فما أكترث بصوت الغلام ، ولم يدر أن كَلِم الحِمام حَمي من الكلام ، وأن وثوقه بطهارته من الكوثر أغنَاه من الحمَّام، فبادر إليه والده فألفاه وهو ساكت باهت ، فعرف أنَّ القدر له باغتٌ ، فلبث يومه لا يُسمع له إلا أنينٌ خفيٌّ علم منه أنه بعهد الله وفيٌّ ، ثم قضى سعيداً.
وعلق عماد الدين الأصفهاني على وفاته بقوله: ومضى شهيداً حميداً ، فوفَّاه الله تعالى الوصية ، فكانت له بسيد الأولين والاخرين أسوة ، وإن تردَّى عن ردء العمر فله من حُلل البقاء في عليين كسوة ، ولأنه لم يُبْقِ في مدَّة حياته عملاً صالحاً إلا قدَّمه ، ولا عهداً في الجنَّة إلا أحكمه ، ولا عَقداً في البِرِّ إلا أبرمه ، فإنَّ صنائعه في الرقاب ، وأوقافه على سُبُل الخيرات متجاوزةً على الحساب ، لا سيما أوقافه لفكاك أسرى المسلمين إلى يوم الحساب ، وأعان طلبة الشافعية، والمالكيّة عند داره بالمدرسة ، والأيتام بالكُتَّاب ، والخيرات الدارة على الأيام ، فكانت له حياةٌ ثانيةٌ إلى يوم البعث ، وإعادةِ حياة الأنام... إلى أن قال: والسُّلطان رحمه الله ـ أي: صلاح الدين ـ من مفتتحات فتوحه ومختتماتها، ومبادئ أمور دولته، وغاياتها، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد ارابه، وارائه، ومقاليد غِناه، وغَنائه.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022